شعار قسم مدونات

عمري 3 حروب وانتفاضتان

Palestinian militants of the National Resistance brigades, the armed wing of the Democratic Front for the Liberation of Palestine (DFLP), march during a graduation ceremony in Rafah in the southern Gaza Strip October 28, 2016. REUTERS/Ibraheem Abu Mustafa
نحن من أبصرنا الحياة أم هي من أبصرتنا؟ أكان مقسومٌ لنا من فوق سبع سماوات أن نعتاشها هكذا؟ كيف برز لنا نحن من تفتحت أعيننا على الدنيا منذ العام 1989 أزيز الرصاص، وقصف المدافع، وتشييع الشهداء، وذرف الدموع، والدماء المدرجة على الجدران؟!
 
لم نعِ البتة ما يجري ويدور حولنا، كان من المفترض أن نبحث عن أحلامنا منذ نعومة أظافرنا في الشوارع والزقاق، لكنّها كان تواجه بعنف منظم من قبل محتل مجرم.

تميزت الانتفاضة الثانية مقارنة بسابقتها بكثرة المواجهات المسلحة، وتصاعد وتيرة الأعمال العسكرية بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي.

كانت البداية مع الانتفاضة الأولى التي انطلقت شرارتها في 8 ديسمبر/كانون الأول عام 1987، وأشيعت لاحقًا باسم "انتفاضة الحجارة" لأن الحجارة كانت الأداة الرئيسية فيها، ويُقدّر أن 1300 فلسطيني قتلوا أثناء أحداث الانتفاضة على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي، بينما قتل 160 إسرائيليّا على يد الفلسطينيين.

وتمضى الأيام بسنيّ عمرنا لعلّها تزهر آمالًا ونقطف ثمارًا مزيّنة ببريق أحلامنا الحبيسة بين ضلوع صدورنا، تتناقلها عقولنا بثقل في حلّنا وترحالنا بين المدرسة ومنزل العائلة، وأينما وطأت أقدامنا، وكلما ترعرعنا كبر في دواخلنا حب الوطن والتشبت بالأرض حتى انغمسنا في جذورها.

وعندما كنّا نجلس لمذاكرة دروسنا في الابتدائية لا سيّما في منهاج اللغة العربية لم نكن نبحث عن قصة مسلية تزيح معاناة الواقع الأليم، بل كنّا نقرأ بتعمن قصص لوطن سليب، وكيف نكافح ونقاوم لاسترداد حقنا الذي صودر أمام ناظرينا.

نعود لسرد بقية قصة حياتنا "الحربية" إن أجاز لنا التعبير ذلك، بعد استراحة تخللتها تأملات طفولية رقيقة حملت في طيّاتها مشاعر الماضي الحزين، وقسمات الوطن الباحث عن إشراقته المعهودة.
ففي 28 سبتمبر 2000، اندلعت الانتفاضة الثانية وعرفت بـ "انتفاضة الأقصى" بعد قيام رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك آرئيل شارون بتدنيس باحات المسجد الأقصى المبارك دون مراعاة لمشاعر الفلسطينيين.

وتميزت هذه الانتفاضة مقارنة بسابقتها بكثرة المواجهات المسلحة، وتصاعد وتيرة الأعمال العسكرية بين المقاومة الفلسطينية وجيش الاحتلال الإسرائيلي، وكان جيلنا على دراية تامة بكافة أحداثها، عايشناها عن قرب، تحملّنا مسؤولياتنا كشباب يافع للدفاع عن بلدنا من غطرسة الاحتلال.

ذكرياتٌ أضافت لأعمارنا سنينًا جديدة، وأعطتنا دافعًا عنيدًا للاستمرار في الحياة رغم مرارتها، فنحن على يقين بأن الشدائد هي من تصنع العزائم.

بهذا نكون قد طوينا صفحة الانتفاضتين، وسنفتح لكم صفحة أكثر دموية وشراسة بحق شعب في غزة يرزح تحت الويلات في الجزء الصغير من الوطن الكبير، سأطلق عليها عنوان "حروب مستعرة"، أولاها بدأت في 27 ديسمبر عام 2008، وامتدت لـ 22 يومًا، حصدت خلالها صواريخ الاحتلال وقذائفه اللعينة أرواحًا وهدمت بيوتًا تساقطت كالحمم على رؤوس الآمنين.

كثيرة هي المواقف التي علقت في أذهاننا، ستبقى خالدة في ذكريات حياتنا رسختها تلك الحرب المجنونة، لا يتسع المقام لسردها، إلا أن مشاهد الدمار والخراب وبكاء الأمهات على رحيل أبنائهن إلى العلياء شهداء كانت أبرزها.

أما الحرب الثانية التي شنتها "إسرائيل" على غزة، بدأت في 14 نوفمبر عام 2012، كانت قصيرة في أيامها الثمانية، إلا أننا شعرنا أن الموت كان يدنوا من كل واحد منا من شدة قوتها وشراستها.

أذكر من جملة ذكريات هذه الحرب، صراخ جارتنا التي أخذت بالركض وحيدةً في الشوارع تحت أزير الطائرات بحثًا عن ولدها المفقود منذ عدة أيام، كان تسير كالمجنونة تنتظر أن تعثر عليها لتضمه إلى حضنها، ولا أنسى ما حدثني به أحد الأصدقاء الذي نجا بأعجوبة من موت محقق من قذيفة كانت موجهة ضده ولولا عناية الله عز وجل لكان في عداد الشهداء.

وحين الحديث عن الحرب الثالثة التي اندلعت في 8 يوليو عام 2014، يتلعثم القلم عن التعبير ويتجمد العقل عن التفكير، حربٌ لم تمتد لعشرة أيام أو عشرين، بلّ لـ 51 يوما بالتمام والكمال، أيامٌ شاب فيها شعر الشباب قبل المشيب.

وبحكم عملي كصحفي، لم تستطع عينايّ أن تتغاضى مشاهد الدماء والأشلاء، وأن أمنع أذناي من سماع رواية فقدان عائلة بأكملها ومسحها عن بكرة أبيها بعد نسف منزلها بحمم الصواريخ.
حقًا أن كل ما ذُكر آنفا يصعب على الذاكرة استرجاع شريطه، ذكرياتٌ أضافت لأعمارنا سنينًا جديدة، وأعطتنا دافعًا عنيدًا للاستمرار في الحياة رغم مرارتها، فنحن على يقين بأن الشدائد هي من تصنع العزائم، وشباب فلسطين نموذجا في ذلك بكل فخر.

لا نعلم إن كان في العمر حروبًا تلوح في الأفق أم لا، ونحن لم نقترب بعد من قطار الثلاثين عامًا، لكن هذا قدرنا، ولن نتهرب منه خوفًا ولا جزعًا، فإذا كانت الحروب تقربنا من وعد الله بتحرير فلسطين من الاحتلال وتطرده من أرضنا فمرحبًا بها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.