شعار قسم مدونات

أطباء القضاء والقدر

blogs-الأخطاء الطبية

بعد أقل من ساعة على ربط الطبيب الغرزة الخامسة أسفل بطن المريض من الجهة اليمنى، أخبره أنه سيغادر المستشفى غداً، فاستئصال الزائدة أمر سهل ولا يحتاج للكثير من العناية، إلا أن الآلام التي رافقته مُنذ خروجه من غرفة العمليات كانت كفيلة لأن تخطف روحه. لم يغادر غداً كما أخبره الطبيب، فالوجع كان أقوى من أن يُنهضه عن فراشه، فلَزِم أقبية المستشفى لأسبوع كامل تناوب خلاله الأطباء على منحه كل ما في صيدلية القسم من أدوية مسكنة، ومسكن نفسي وحيد "إن آلامك أمرٌ طبيعي فلا تجزع".
 

مرَ أسبوع بمرارته، قرر بعدها الأطباء إجراء عملية استكشافية للمريض بسبب انتفاخ كبير في بطنه، فوجدوا أن العفن قد أكل بطنه جراء جرح أصاب القولون أثناء العملية، ولم يشفع للمريض استئصاله، لينتهي الأمر به بعد ساعات قليلة جثة ملقاة على طاولة المشرحة، بحجة معرفة سبب الوفاة المعروف أصلاً. ربما يكون حاله الذي انتهى بالموت خيراً مِمَن دخل غرفة العمليات لاستئصال لوزتيه، وانتهى الأمر به طريحاً أبدياً للفراش بسبب شلل دماغي خلفته العملية، فتركته عالة على نفسه ومن حوله إلى الأبد.
 

تعمدتُ أن أذكر هاتين القصتين لبساطة وسهولة إجراء عملياتهما، إلا أن أخطاء الأطباء فيهما أودعت مرضاهم بين الموت والموت السريري، وإلصاق الأمر بالقضاء والقدر زوراً وبهتاناً. مما لا شك فيه أن الله جل في علاه خلق كل شيء حتى أفعال البشر، لكنه لم يُجبرهم على فعلها، ومما قد يلتبس على البعض فهم قول العلماء "إن الله علم ما كان وعلم ما سيكون"، لا يعني أن علم الله يُلغي اختيار الإنسان لأفعاله، فعلم الله علم كشف لا علم جبر.
 

لماذا فخامة الرئيس، وسمو الأمير وحتى معالي وزير الصحة عندما يصاب بأي مكروه يُستدعى فوراً أمهر الطيارين ليطيروا بأصحاب السمو إلى خارج الوطن لضمان سلامتهم وبقاء حياتهم؟!

والحقيقة أن كل إنسان مسؤول عن أفعاله ما صلح منها وما فسد، خاصة إذا تعلق الأمر بمصالح البشر وأرواحهم، فأخطاء الأطباء ما هي إلا ممارسة غير صحيحة لعلمٍ قد سُخروا لأجله، أو ضعف في علم بعضهم وخبرته، وربما انعدامهما، وأحياناً تشخيصات غير موفقة، أو إهمال متعمد في بعض المرات. الخطأ الطبي أمر وارد في كل مكان وزمان، لكن في عالمنا العربي أمر آخر، فلا تجد انحساراً في عدد المخطئين، بل تسجل الزيادة في كل عام يتلو أخاه، وعلى سبيل المثال لا الحصر ففي السعودية وحدها يموت 2500 شخص سنوياً بسبب الأخطاء الطبية، وربما يكون حالها أفضل بكثير من دول الوطن المكلوم.

لما العجب من هذا الحجم الكبير للأخطاء الطبية في مجتمع أقصى ما يتخذه في موت مريض بإهمال طبي هو تشكيل لجنة تحقيق من أطباء وموظفين، من نفس المستشفى الذي وقع فيه الخطأ أو الإهمال، وفي قرارة أنفسهم أن ينتصروا لسمعة زميلهم ويُجرّموا القضاء والقدر، عدا عن تضامن النقابات الدائم مع الأطباء، وكذلك انعدام الجمعيات المختصة بحماية المريض في أغلب دول العالم العربي.
 

والحقيقة أن المسؤولية لا يتحملها الطبيب المخطئ فقط، بل المؤسسة الطبية كاملة وبدرجات متفاوتة، فمن المفترض أن الطبيب الذي يثبت خطؤه وإهماله يعاقب أشد العقاب، ويرفع عنه الغطاء النقابي، ويعامل معاملة الجاني، وكذلك المستشفى التي تساهم في إخفاق الطبيب من عدم جاهزية أقسامها ومعداتها، وتقصيرها بتدريب طواقمها بشكل مستمر، أو التستر على من يهمل منهم، فأرواح البشر أثمن عند الله من أن يُهدم بيته الحرام حجراً حجراً.
 

دعك من كل ما مضى من هراء لكن لماذا صاحب الجلالة، وفخامة الرئيس، وسمو الأمير وحتى معالي وزير الصحة عندما يصاب بأي مكروه يُستدعى فوراً أمهر الطيارين ليطيروا بأصحاب السمو إلى خارج الوطن لضمان سلامتهم وبقاء حياتهم؟! وحتى لا نكيل بمكيالين فإن الكثير من الآلات لا يمكنها العمل لمدة تزيد على 30 ساعة متواصلة فما بالكم ببني البشر، أحسب أن الطبيب قد يكون معذوراً في بعض المرات لو أخطأ فلا أظن أن عينيه ستعينه على تمييز الأعراض أو حتى أنواع الأدوية بعد كل هذه الساعات من العمل، كما أن الأخطاء الطبية الكثيرة لا يقع فيها كل الأطباء، فمنهم من هم ملائكة رحمة، وبلسم للقلوب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.