شعار قسم مدونات

قد كبرنا يا أمي!

blogs - الام

لم أعد يا أمي أتعرف على الدنيا بتلك العين الصغيرة المُقبلة عليها الطامعة فيها. حينها كنت غريبًا عنها جديدا عليها ولكنني كنت أسلك طريق المُتقربين المُتلهفين، كنت أسبر أغوارها وأكشف أسرارها، وكانت هي تكشف لي عن نفسي كل يوم، فصرت أرغبها وترغبني، تجذبني إليها فأنجرف انجرافا نحو أعماقها..

كنت طفلًا حالمًا أحب الحياة! أخذني الطريق يا أمي حتى بلغت نهاية الأفق السحيق، حيث خُيل لي أنه المُنتهى وأنه كمال البلوغ وتمامه، فصُدمت أنه البداية!، وأدركت أنكِ لم تخطي معي إلا خطيوات على بداية درب تفرع منه مئات الدروب المهجورة نحو أهداف مجهولة!

 

لا يُكشف عن السر ولا يُفصح عن الحق إلا لمن سعى وعزم وشق الطريق، فربما يضل.. ولكنه حتمًا سيلقى الحكمة المُختبئة في قلبه!

قررت حينها بشجاعة أن أسلك طريقًا منهم أبحث فيه عن ضالتي، استفتيت قلبي، فأختار طريقًا، ظننت بدايةً أني أخترته بنضج وسداد، ولكني بعدما قطعت فيه الشوط الأكبر تيقنت أن قلبي أوقعني عليه بعشوائيته التامة الدائمة! ففي طريقي يا أمي رأيت من الدنيا ما لم أر وتعلمت ما لم أكن أعلمه، ولكن ما أختلف عن بادئة الأمر، أنني كلما تعلمتها أعرضت عنها، وكلما بُيد لي أنها الدنيا الحقيقية المُتعارف عليها بين كل السالكين، لفظتها ولفظتني ولم يعد بيني وبينها من عمار!

 

ففي دنياي الجديدة يا أمي تتسارع الأحداث وتتخالط، وتزداد الأمور تعقيدًا كلما ازددت عقلًا ونضجا، وتتكبل النفس وتدور في أفلاك لا منتهية من اللاشئ الذي نسعى إليه! أعلم أنكِ لو سمعتيني يا أمي لخِفْتي على وتألمتي لأجلي ولظننتي إنني ضللت الطريق حيث لا عودة!

 

يا ولدي.. لا تتوقف عن السير مهما اشتدت أهوال الحياة وآلامها، وأعلم أنك قد تنساق إلى الدرب انسياقا دون إرادة منك أو تقدير، فلا تتركه؛ لتشرع في غيره إلا إذا استخلصت الحكمة من وجودك فيه.

أُماه اطمئني.. فلا يُكشف عن السر ولا يُفصح عن الحق إلا لمن سعى وعزم وشق الطريق، فربما يضل.. ولكنه حتمًا سيلقى الحكمة المُختبئة في قلبه! وهي التي لا تنجلي إليه إلا عندما يخطو، ولا يهتدي إلا عندما يهرول، ويدرك أنه غريبٌ على الدنيا؛ يعيش فيها غريبًا ويرحل عنها كما يرحل الغرباء! هو يا أُماه لم يُجبل على حب الدنيا؛ فهو راحل عنها قريبًا، ولم يُبعث في الدنيا لينعم فيها؛ فالدنيا ليست دار النعيم.. وإنما هو في كبد، يبحث عن ضالته من الحكمة، ورسالة الله له التي تحمل دوره الفريد في مجموع الخلق، فيحسنه ويُحسن صناعة نفسه على عين الله!

 

يا ولدي.. لا تتوقف عن السير مهما اشتدت أهوال الحياة وآلامها، وأعلم أنك قد تنساق إلى الدرب انسياقا دون إرادة منك أو تقدير، فلا تتركه؛ لتشرع في غيره إلا إذا استخلصت الحكمة من وجودك فيه، فربما أنت على الصراط ولا تدري! فأحسن فيما تفعل وأخلص، ولا تفكر في الحركة وأنت في السكون، ولا تغرق في الدنيا فتنسى أن لنفسك حق عليك، ولا تهجر الدنيا، وأعمل للآخرة، وأستعن بالله، وتوكل على الله.

"اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ.."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.