شعار قسم مدونات

تجَرَّدْنا فتَجَرَّأْنا!

blogs- المسلم

الشهوةُ أو الرغبةُ حين تسيطر على الإنسان فهي في صَدْرِهِ كالنار تَحرِقُه وتُلْهِبُ حناياه وتحت ضغط هذا العذاب لا يملكُ إزاءَها إلا أنْ ينساقَ مسلوبَ الإرادةِ باحثًا عن الماء الذي يُطفِؤُها ولا يَهُمُّه حينئذٍ أحلالٌ هو أم حرام، إنما الذي يَهُمُّه في هذه اللحظة هو شيءٌ واحدٌ فقط: كيف يُطفيءُ النار؟
 

لكنَّ هناك ماءً آخَر لا يَبْقَى لنار الشهوة والرغبة الحرام معه مكان! ولستُ أعلَمُ ماءً هو أقوى أَثَرًا وأعلى يَدًا وأسرَعَ مفعولًا وأكثَرَ قدرةً على إطفاء حرائق الشهوات مِن هذا الماء.. هذا الماء يجب على كل مسلمٍ حريصٍ على دِينِه أن يبحث عنه وأن يعمل على توفيره بكميات كبيرة حتى إذا اندلعت نارُ الشهوة -وما أكثَرَ ما تَنْدَلِع- كان لها بالمرصاد! ذلك الماء هو ماءُ الخَوف!!
 

لا تنفعُ الذِّكْرَى ولا التَّذْكِرَةُ ولا ينفعُ القرآنُ قومًا تجردوا مِنَ الخوف والخشية فقال جَلَّ مِنْ قائل "إنَّ في ذلكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى..".

يَحكِي لي أَحَدُهُم أنه كان على وَشَك الوقوع في معصيةٍ كبيرة قد رَتَّبَ لها كلَّ أسبابِها ولم يَبقَ إلا التنفيذ ولم يَكُن هناك أيُّ شيءٍ يمكن أن يَرُدَّهُ عَمَّا عَزَمَ عليه حتى حين ذَكَّرَهُ أَحدُهُم بالله وأن هذا يُغضبه ولا يُرضيه لم يلتفت ومَضى قُدُمًا في تنفيذ معصيته! لكنه قبل التنفيذ بساعة واحدة جاءهُ هاجسٌ لا يَدري ما مصدرُه فقد بَدَاَ يُفَكِّر ويسأل نفسَه فجأة: وماذا لو انكشفَ أمري؟!
 

وبسبب شَكٍّ بسيط جدا كان لديه أخذَ الهاجسُ يَكبُر ويكبُر في نفسِه حتى تَحولَ خلال لَحظاتٍ ليس دقائقَ ولا ساعات إلى خوفٍ رهيب سيطَرَ عليه تمامًا وشَلَّ تفكيرَه كُلَّه إلا التفكيرَ في كيفية التخلص من المعصية قبل أن يقعَ فيها، وهو الذي كان منذ دقائق قليلة يَظُنُّ الموتَ أهونَ مِن تَرْكِها!
 

ومع أنَّ خَوفَه لم يكنْ من الله وإنما مِن عبدٍ مِن عبادِه إلا أنَّ هذا الخوف سيطرَ عليه كُليَّةً كما يَحكي وكأنهُ ماءٌ نَزَلَ من السماء فأطْفَأَ كلَّ الحرائق التي كانت تعتملُ وتشتعلُ في صدرِه، فكيف لو كان هذا الخوفُ من الله الذي "يُسَبِّحُ الرعدُ بِحَمْدِه والملائكةُ مِن خيفتِه ويُرْسِلُ الصواعِقَ فيُصيبُ بها مَن يشاء" إننا ما تَجَرَّأْنا على المعاصي إلا حين تَجَرَّدْنا من الخوفِ من الله عَزَّ وَجَل. تَجَرَّدْنا فَتَجَرَّأْنا..

إنك لا تكادُ تَرى قاتلًا أو لِصًّا أو فاسِدًا أو خائنًا أو بائِعًا لِدينِه ووطَنِه وأُمَّتِه إلا وقد تَجَرَّد من الخوف من الله إذْ لو كان يخافُه لَمَا تَجَرَّأَ على القتلِ والفسادِ والخيانة وهو يعلم أنها أكبَرُ الكبائر.. والخَوفُ فِطْرَةٌ بشريَّة فَمَنْ مِنَّا لا يَخاف؟ وضرورةٌ حياتية فتخيلوا معي لو نُزِعَ الخوفُ مِن صدورِ العباد.. لو أنَّ ذلك حَصَل لَقَتَلَ الناسُ بعضُهُم بعضًا وإنما يمنعُ القاتلَ من القتل خشيةُ القتل ويَمنَعُ السارقَ من السرقة خَشيةُ القَطع ويَمْنَعُ الزَّاني مِنَ الزِّنَى خَشيةُ الرَّجْم وإنما أساءَ الناسُ الأدب حين أَمِنوا العقوبة.
 

مِن أجلِ ذلك كُلِّه بَيَّنَ اللهُ عَزَّ وجَلَّ في غَيْرِ مَوْضِعٍ قيمةَ الخوفِ منه وخَشْيَتِه وأنه لا تنفعُ الذِّكْرَى ولا التَّذْكِرَةُ ولا ينفعُ القرآنُ قومًا تجردوا مِنَ الخوف والخشية فقال جَلَّ مِنْ قائل "طَهَ ما أنزَلْنا عليكَ القرآنَ لِتَشْقى إلا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى.." وقال "إنَّ في ذلكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى.." وقال "فَذَكِّرْ إنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى.." وقال "وأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ ونَهَى النَّفْسَ عَنِ الهَوَى فإنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوَى" وقال مُبَيِّنًا جزاءَ المؤمنين الصالحين "أولَئِكَ هُمْ خَيْرُ البَرِيَّة جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِم جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحتِهَا الأنهارُ خالِدِينَ فيها أَبَدًا رَضِيَ اللهُ عنهُمْ وَرَضُوا عَنْه ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّه".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.