شعار قسم مدونات

اقتحام قضايا مفروغ منها جدًا!

blogs- العرب

حركة التغيير في التاريخ تغيير واقع زائف وهابط إلى واقع حقيقي وصاعد، حركة تقوم بها ذوات مبدعة ومنتجة وحرة، لا ذوات هادمة تغريبية -تؤطَر داخل الاغتراب التاريخي- تكون مسببة لتخلف واقعها، فنشهد سياسةً مواكبةً لعصرها وزمانها حتى تصل إلى الشمولية والاستبداد، والجانب الاقتصادي المثمر كثيرًا حتى الغرق في الديون يؤدي إلى الارتهان والتبعية، التدين في أوجه حد التكفير، والمجتمع المدني في سموه حد الصراع المشحون بالإيديولوجيا والطائفية، الفقر والفساد والمحسوبية لقد تجاوزناها والآن فقط يمكننا أن نحتسي فنجان قهوة تركية على كورنيش النيل.
 

أول مدونة لي في الجزيرة أكتبها وأنا في حيرة من فكري، حيرة في ما هي أولوياتنا اليوم في العالم العربي، في ظل ما يعصف بنا من تخبط في العقل الجمعي، وفساد أشباه الدول -الأنظمة العربية السلطوية- وما يدور حولنا من تطور وتقدم دول العالم أو بتسمية أشهر لدى الكثير "تقدم الأغيار!".

الفلسفة التي تعني محبة الحكمة أصبحت دلالة شعبية عن الكلام الذي ليس له فائدة والكلام الذي بلا معنى، هذه التي صاغت للعقل الإنساني أطواره ومآلاته.

وانطلاقًا من الحاجة الراهنة، نحن قبل أن نبدأ في المشروع- الما بعد حداثي – نحن الآن معنيون بإعادة الإضاءة على جميع المفاهيم الإنسانية الراسخة فينا ونظرتنا لقضايانا وفهمنا المفروغ من أمره جدًا، المعنية بحركة وركود العقل الجمعي، قبل أن ندخل في ما بعد الحداثة، وهل دخلنا الحداثة من أساسه؟
 

"إنما الأمم الخلاق ما بقيت، فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا" الشاعر أحمد شوقي، وقد رددها العرب بعده قاطبَة في كل نازلة، مع مجموعة من العبارات والحِكم والأمثال والأشعار والقصص العربية التي تحث الإنسان على الأفعال الحسنة وتنبذ الأفعال السيئة، إلى أن تم استهلاك المفهوم وأصبح الحديث عن الأخلاق ترفًا ذهنيًا أو فراغًا إنسانيًا.
 

واعتبر كل فرد أن ما يفعله هو الأخلاقي، "ما أفعله أنا أخلاقي وما يفعله غيري لا أخلاقي، إما لأنه يجهل ما هي الأخلاق وإما فقط لأنه غيري" وإن تحدث أحدهم اليوم عن الأخلاق أُخذ على محمل اللامبالاة واللاأهمية معتبرين أنفسنا أننا انتهينا من هذه القضية، وأنه أمرٌ قد فرغنا منه، في حين قد ألف في هذه الكلمة "الأخلاق" المؤلفات والكتب منذ أكثر من ألفي عام من كل الأعراق والحضارات، و"افعل بحيث يكون فعلك قاعدة عامة للعالم" إيمانويل كانط.
 

"كذب الساسة ولو صدقوا" السياسة هي الأخرى أمرٌ مفروغ منه، كلها نفاق وكذب ومصلحة وزيف، سوق لهذا الفهم ما شاهده الناس من رجال الدولة من جهة، الذين ليس لهم صلة بالسياسة، لم يكونوا إلا متسلقين وانتهازيين وتملّكيّين. الاستبداد والتشبيح من جهة أخرى. ومما أدى إلى ابتعاد الغالبية العظمة من المجتمعات العربية عن أن تكون مشاركة في صنع القرار-أو إبعادهم- إن كان يوجد عندها في الأصل موقف سياسي، في صناعة القرار السياسي لأوطانهم. وبالضرورة فراغ -أو تم تفريغه- الجو للأنظمة الشّمولية، التي حلقت من سعادتها، لنفور الشعوب من أكثر الميادين الإنسانية حساسيةً السياسة.
 

العلمانية غدت هوية "لا موقف سياسي من الدولة" وأصبح عندنا هويات دينية وهويات علمانية تتعارك فيما بينها.

والفلسفة التي تعني محبة الحكمة أصبحت دلالة شعبية عن الكلام الذي ليس له فائدة والكلام الذي بلا معنى، هذه التي صاغت للعقل الإنساني أطواره ومآلاته، أليس "الحكمة ضالة المؤمن"؟، ومن يرمي بالحكمة هذه الرمية الزائفة التي تنبع من خلل أصاب العقل الجمعي، فهو بالضرورة تخلى عن المنطق . حيث يعتبر كل فرد أن ما يقوله هو المنطقي، وليس فقط لأن المجتمع تخلى عن التعلم والمعرفة والقراءة والبحث في كل ما يخص هذه المفاهيم والقيم، وإنما أيضًا تشويش وصعوبة رؤيا وعدم إصغائنا للعالم المحيط بنا، لا نسمع إلا أنفسنا فقط، أو ما يوافقنا ليزيد ويوسع مما نعتقد به، ويعمق الفجوة بين الأشياء وحقائقها وبيننا..

القضايا الدينية التي ليست مطلبًا عاجلاً -لمعالجتها لمتطلبات الواقع العربي الراهن ثمة قضايا أكثر حتمية لحلها المنعطفات التاريخية السياسية، المسارات الاقتصادية، المجتمع المدني والرهانات الحضارية العالمية- بما تبقى عندنا من عاطفة، نتشعب في هذه القضية من جميع جوانبها، فنؤول ونفسر دون السياق الإنساني العالمي أو حتى لمحاربته، ونضيع في الصراعات ونغور في التعصبات الدينية والطائفية والمذهبية، وتظهر لنا نماذج دينية تغرد خارج سرب كل التوقعات، فيكون المآل الدين هو الحل أو الدين هو السبب.
 

في حين أن العقل الإنساني قد تجاوز هذا التعصبات وحتى العصبيات، في القضايا الدينية وقضايا الأديان والمعتقدات، دون هذا التشنج، بكل الاختلافات الجوهرية، حتى الدين والتدين ومعنى العبادة وجوهر الإيمان والتصوف والتصورات اللاهوتية، التي مازلنا نفتقر معانيها وماهيتها بمعزل عن القوالب المعدة مسبقًا، إلى حد ما . ونعود ونتعارك ونتصارع أن الدين هو الحل أو التراث هو الحل أو الحداثة أو العلمانية هي الحل، حل لكل ما نحن فيه. وكل صراعتنا وتناقضاتنا يمكن أن نخرج منها إلى الإبداع والحرية، "أن الصراع مصدر الحرية ومنبع التقدم" هكذا التاريخ كما قدمه لنا المفكر برهان غليون في كتابه اغتيال العقل.
 

فرب قضيةٍ مألوفةٍ لدينا محمودةٍ عندنا لكنها في واقع الحال تكون زيفًا وباطلاً، ورب قضيةٍ غير مألوفةٍ لدينا غريبةٍ عنا لكنها تكون في الواقع حقًا وصدقًا.

وآخر ما حرر من المفاهيم المفروغ من أمرها جدا، هي العلمانية التي تعني الإلحاد على سبيل القطع، ولفترة ما من زماننا العربي المعاصر كان يحال الشخص الذي يصفوه بالعلماني إلى القضاء وتفصل عنه زوجته كونه خرج عن الملة. ولم يفكر أي أحد بأن يكلف خاطره بالعودة إلى سياق المصطلح ولا حتى جال في فكره أن يسأل وما هي هذه العلمانية التي تعني الإلحاد؟ لا يريد أن يستمع لها ولا يريد أن يعرفها مطلقًا، وزيادة في الطين بلة أن العلمانية غدت هوية "لا موقف سياسي من الدولة" وأصبح عندنا هويات دينية وهويات علمانية تتعارك فيما بينها. وزيادة في "السبهللة" والكوميديا التي نحن بها، هي أن من يعود إلى حفريات المصطلح "Secularism" "الدنيوية" يجد إن أول من استخدمه هم رجال الدين حيث استخدمته الكنيسة لتمييز رجال الدين الذين يعملون خارج الكنيسة، عن الرهبان الذين داخلها.
 

ليست الغاية الوصول إلى إجابات عن المفاهيم التي أوردناها أو التي لم نوردها في ظل الفائض المعرفي وسهولة الوصول إلى المعلومات، لكنها محاولة منا لنزع أي مواقف قبلية أو أحكام مسبقة وتحريك ما ركد من جملة من القضايا التي نتعامل معها أو التي اتخذنا منها موقفًا جراء فهمنا السطحي لها أو كانت خلافًا لما عهدنا، فلا فكاك تاريخي من انغلاقنا عن الآخر.
 

وإننا كبشر نبحث عن الحق ونستمع للجميع فرب قضيةٍ مألوفةٍ لدينا محمودةٍ عندنا لكنها في واقع الحال تكون زيفًا وباطلاً، ورب قضيةٍ غير مألوفةٍ لدينا غريبةٍ عنا لكنها تكون في الواقع حقًا وصدقًا. بهذا المعنى يصوغه ابن النفيس لنا ويختم نصه "الحق حق في نفسه، لا لقول الناس له".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.