شعار قسم مدونات

لعنة المكان وملذات المنفى

BLOGS- المنفى
نوستالجا المكان وظل ماكوندو!
في قرية صغيرة تشبه ماكوندو ماركيز ولدت، وبين زقاقها المعجونة برائحة الطين والغبار والحزن النبيل كنت ألاحق طفولتي الهاربة مني! شرقي عمان كان القلب أكثر جموحا من الآن، وكانت الطفولة الهاربة مني تشبه أحلامي الصغيرة آنذاك! ضئيلة وهامشية وطاعنة في الأمل والتمنّي! المدرسة وبئر الماء وصوت أولاد الحارة القديمة، وهم يقترفون الضحك حد البكاء كلها تسكنني وأسكنها كما يفعل فنان بريشته المهجورة، وكما يفعل محب برسائل حبيبته الصفراء وهو يشمها ويقلبها، ويتلظى على نار الذاكرة المتقدة نارا ودخانا!
 

الرفاق الصعاليك لا يشبهون شيئا آنذاك لفرط ما فيهم من عفوية وشفافية ورمزية غريبة! كنا نتسلق الجدران كما تفعل القردة، ونطارد الصباح والمساء مقبلين على الحياة لا مدبرين، وحاملين شعلة بروميثيوس في قلوبنا الممتلئة بالغد المتردد. لا نريد شيئا من الحياة سوى عصارتها الخالصة، وفتات يومنا العادي بكل ما فيه من صخب وتوثب وترهات وسخافات باردة كنا نتشبث بها كما يفعل حالم سقط في جب الحكاية، ولم ينجو من سحر الراوي!
 

المنفى ليس صورة تراجيدية وعدمية كما يصورها المفكر الغربي أورباخ في كتاب المحاكاة، بل هو مزيج معقد من التصالح وعدم الرضا مع الوطن المكان والوطن الفكرة.

كان الفتية يرقصّون إيقاع المكان وشجرات السرو المبتورة على حواف الطرقات تردد أغنية الطفولة ولا تعرف شيئا عن المنفى أو حتى معجمه المتلبّس بعقل الشتاء الذي كان يتنفسه الشاعر المجنون ستيفنسون، وكأن الموسيقى غريزة شعرية في لهجتنا الفلسطينية البدوية وصوتنا واحتجاجنا الساخر على الحياة وروتينها الممل!
 

في صباح كل جمعة، وقبل أن يتنفس الفجر أول زفراته، كنت أركض صوب تلة قريبة من بيتنا، وكأني على موعد غرامي مع المكان والطبيعة، وتفاصيل الحي الريفي القديم، وفي قلبي ترنيمة قديمة تحاكي ترنيمة بيرسي شيلي عندما كان يناجي روح الطبيعة والحقيقة في عقر دارها. "أيتها الطبيعة البكر، لا تبرحي الحياة" لا أحد يرافقني في رحلتي المحفوفة بالصباح والبحث عن شيء لا أدركه، وربما البحث عن صوت داخلي كان يسابقني كلما توترت علاقتي مع المكان وساكنيه! الغربة لا تعني لنا شيئا عندما نخسر علاقتنا بالمكان وساكنيه! وكأني بمحمود درويش يرد عليَ محتجا "البيوت تموت إذا غاب سكانها"..
 

ربما بدأت علاقتي بالمكان تتلاشى تدريجيا عندما أيقنت أنني لاجئ هوميري، إذ قال لي أبي مرة عندما سألته عن نيته في الرجوع لبلدتنا القديمة في فلسطين "أنت لاجئ لا وطن له يا بني، أيعود الميت لجنته بعدما صعدت روحه للسماء! أنى يعود وقد ذهب الذين يحبهم". كان صوت أبي يشبه مزمارا حزينا ثقبته الريح، فغنى موال غربته ويتمه كما تفعل الطيور المهاجرة "الوطن يا وليدي صوت أمي وأبي قبل النكبة، أما الآن فلا بواكي لفلسطين سوى أحفاد الخسارة.. ".
 

ولا بد لي من الرجوع لصورة المنفى كما يراها بعض الشعراء، قبل السقوط في وحل التداعي الحر. قبل أيام التقيت الشاعر الفلسطيني مريد البرغوثي، بعد محاضرة له مدهشة في جامعة البتراء عن المنفى. كان موضوع حديثه المتوقع عن المنفى، لكنه بدأ بعبارة ذكرتني بعبارة لثيرفانتس في رائعته دونكيشوت "سوف أخيب ظنكم، لأنني أرى المنفى حديقة تعج بمباهج الحياة ومسرات العمر، وليس صوتا حزينا تجرحه أوجاع الخسارة والاجتثاث" أريد أن أتحدث عن "كسر الإرادة فهو أكثر إيلاما من جروح المنفى، وخساراته التي أراها مسرات متراكمة وجمعية. المنفى ليس وجعا كما يراه أحفاد اللطميات والبكاء على الأطلال!".
 

عليك أن تكتشف أن ذاتك التي تعرفها ليست الوحيدة لديك، المهم أن تجد ذواتك الأخرى وتتحرر من وهم ذاتك الوحيدة وجغرافيا المكان.

كانت بداية صادمة للكثيرين بما فيهم رئيس رابطة الكتاب الأردنيين، الذي بدوره باغتنا وباغت مريد بسؤال عن السلطة الفلسطينية، وفاجأنا مريد كعادته بأنه لم يفاجئنا من موقفه من السلطة الفلسطينية! وكأني به يناجي محمود درويش عندما قال مرة ممازحا بعض قادة السلطة الفلسطينية: "السلطة في كل مكان حتى في القصيدة".. ثم باغتنا مريد مرة أخرى في رده على سؤال يتعلق بخصوصية وجع المنفى الفلسطيني قائلا: "من قال إن الوجع الفلسطيني يفوق أوجاع المنافي التي تلتهم العالم"، "كيف للشاعر أن يكتب جرحه وهو ينزف.. عليك أن تداوي جرحك أولا، وأن تطببه، ثم تأتي القصيدة لاحقا كشرط جمالي يتبع صدى الكارثة".
 

ملذات المنفى:
المنفى ليس صورة تراجيدية وعدمية كما يصورها المفكر الغربي أورباخ في كتاب المحاكاة، بل هو مزيج معقد من التصالح وعدم الرضا مع الوطن المكان والوطن الفكرة. المنفى هو وطن آخر للكاتب الجماهيري والقادر على تحويل آلام غربته وشعوره بالهشاشة لخطاب مقاومة عابر للجغرافية والتاريخ في كل مكان وزمان.
 

ولعل هذه الصورة الطباقية هي التي توسل بها مريد عندما خيب ظن الكثرين في حديثه عن ملذات المنفى، وتراجيديا كسر الإرادة بصفتها صورة أكثر شراسة من المنفى، رغم أنني أرى في كسر الإرادة صورة يومية راهنة تتماهى مع جل تناقضات المنفى، وجرار الاجتثاث التي ملئت بالحزن النبيل وأصوات الذين تحولوا لصدى يردد معنى المكان عندما تكسره الذاكرة:
حصتنا من الحرية تشبه حصة الزاوية في البيت من ثرثرة النافذة
حصة الليل من دفء الغربة!
أو حصة المكنسة من السرد
حصتنا من الحب قسمة الرغيف بين أخوته اليتامى!
حصتنا من الحرية لا تشبهنا البتة!
 

عليك أن تكتشف أن ذاتك التي تعرفها ليست الوحيدة لديك، المهم أن تجد ذواتك الأخرى وتتحرر من وهم ذاتك الوحيدة وجغرافيا المكان. من الممكن أن تكون عربيا وتولد في فرنسا، ثم تعيش بقية حياتك في ألمانيا، ثم تتعرف على ملذات المنفى متأخرا وسط الغياب: كأن تولد مرات عديدة، وتنتمي لكل أفراد البشرية، وتتكلم لغات ليست لك، وتلبس لباسا لا يشبه بشرتك العربية.
 

ماذا يعني أن تحاور النافذة والستائر المشجّرة بلون القرميد ورائحة الزعفران؟ ماذا يعني أن تكون صديقا استثنائيا للسناجب التي علمتك الخفة ورشاقة التأمل؟

قد تولد من أم عربية وأب عربي، ولا تبرح قريتك أو مدينتك التي ولدت فيها، وتفعل الشيء نفسه، كما فعلت شخصيات الروائي نجيب محفوظ في ثلاثيته المشهورة. ثم ينتابك شعور مرضي بأنك تسكن روح شخص يعيش في مدينة باريس، وتتصرف كشخص يعيش في دمشق، وتتكلم وكأنك ابن قبيلتك الوحيد، وتحب كأنك أحد مجانين شوارع بيركلي وسان فرانسيسكو أو دمشق، وتحب الحياة وكأنك لن تموت.. أنت كل هؤلاء ولا أحد من هؤلاء. أنت كل ما تجهله عن نفسك يا صديقي..
 

ماذا يعني أن تحاور النافذة والستائر المشجّرة بلون القرميد ورائحة الزعفران؟ ماذا يعني أن تكون صديقا استثنائيا للسناجب التي علمتك الخفة ورشاقة التأمل؟ ماذا يعني أن تتماهي مع الغرباء الذين تلتقيهم صدفة في المطارات المكتظة بمقاهي ستاربكس "اللعينة" ومطاعم ماكدونالدز ورائحة الصعاليك البحارة، وهم ينسلون من جيوب مقديشو والخرطوم وغزة وبنغازي.
 

ثم تلتقيك امرأة أسكتلندية تطرح عليك التحية بلكنتها القحة، وتبتسم كما يفعل الأطفال نهار العيد، ثم تصيران نهبا لحديث يمتد ساعات وساعات.. تبكيان معا، تكركران كما يفعل مجانين سان دييغو، تلعنان المستشرق الجنرال معا، ترسمان شجرة الأرز على طاولة المقهى، وتغنيان أغنية البحارة القديمة، ثم تمضيان كل في طريقه، ثم تلتفتان فجأة قبل الرحيل "وفي عينيكما دمعة تسح على خديكما، وابتسامة صفراء، وخيبة أمل بحجم كل المدن التي ضاعت وكل العشاق الذين أصابتهم لعنة المطارات قبل الوصول".. تمضيان وكأن شيئا لم يكن!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.