شعار قسم مدونات

من المجرم.. أنت أم عقلك؟

blogs - سيكوباتى

النيوروساينس وجدلية القانون العصبي"neuro law"

المخ البشري، صنيعة الله الأكثر تعقيدًا، ذلك العضو الذي يقع بين أذنينا ويحتوي على 100 مليون خلية عصبية وما بينها من عدد مهول من الوصلات العصبية الذي يفوق عدد نجوم مجرة درب التبانة وامتداد مسافة الألياف التي تصل بينها في المخ الواحد قادرة على إيصالك لنصف المسافة نحو القمر.
 

المخ هو لغز البشرية القديم الجديد، اللغز الذي صار الكل يتكاتف الآن على حله وبدأ أولى الخطوات على مسيرة محاولة استكشاف الفضاء الداخلي -إن صح التعبير- الكامن في رأس كل إنسان على وجع الأرض.
 

لم نكن نعرف الكثير عن المخ منذ قرن مضى فقط القليل من المعلومات التشريحية والوظيفية البسيطة وما أضافه علم الأنسجة لم يكن بالكثير وحتى بدايات السبعينيات كانت معلوماتنا مقتصرة على السمات التركيبية والوصفية لتشريح المخ والقليل من المعلومات عن الوظائف البدائية التي نشترك فيها مع أغلب الفصائل الدنيا.
 

علم الـ neurolaw ذاك العلم الذي يربط القانون وتحديدا القانون الجنائي بالاكتشافات الجديدة في المخ البشري والذي يطرح الكثير من القضايا والتساؤلات الجدلية التي قد تغير ملامح القانون في المستقبل.

في نهايات سبعينات وثمانينيات القرن الماضي أحدثت ثورة الـneuroimaging علم تصوير الأعصاب- طفرة في كم المعلومات التي تمكن علماء المخ والأعصاب من رصدها عن الجهاز العصبي البشري وتحديدا المخ بالمقارنة بما سبق وذلك من خلال اختراع جهاز الرنين المغناطيسي التركيبي والرنين المغناطيسي الوظيفي "functional MRI" الذي مكننا من رصد مراكز المخ المرتبطة -وليست بالضرورة المسؤولة- بالوظائف والسلوك والمشاعر الإنسانية المختلفة.
 

وبالرغم من هذا الانفجار المعرفي الذي طرأ على هذا العلم، سرعان ما أنتشر كالنار في الهشيم في مختلف العلوم الطبية والإنسانية والهندسية وصار مقطع neuro الذي يسبق كل علم مجالا جديدا للبحث العلمي لمحاولة اكتشاف الروابط بين ذلك العلم وبين المخ البشري ومحاولة استغلال تلك الاكتشافات تكنولوجياً في صورة تطبيقات عملية في الحياة اليومية.
 

أحد هذه العلوم الناشئة علم الـ neurolaw ذاك العلم الذي يربط القانون وتحديدا القانون الجنائي بالاكتشافات الجديدة في المخ البشري والذي يطرح الكثير من القضايا والتساؤلات الجدلية التي قد تغير ملامح القانون في المستقبل والتي سنحاول أن نتطرق إليها في هذه المقالة.

 

هناك جدل حول مفهوم الأهلية القانونية. وهل المتهم فعلا مدان بجريمته التي فعلها عن عمد أم أن هناك مجموعة من الخلايا العصبية في أحد مراكز المخ مصابة بالضمور أو بالتضخم على سبيل المثال أو منشطة بشكل مفرط تسببت في هذه الفعل.

جدلية المسؤولية الجنائية

مع تطور الاكتشافات في الأبحاث على المخ البشري سرعان ما تم الزج بنتائج تلك الأبحاث داخل قاعات المحاكم في الولايات المتحدة الأمريكية كمحاولة لتبرئة المتهمين من الجرائم التي تستوجب عقوبات صارمة كالقتل، أحد أشهر القضايا التي أثارت الجدل هي جريمة لأحد المراهقين كريستوفر سيمونز – سبعة عشر عاما- الذي قتل سيدة حاول سرقة بيتها بعد أن استيقظت و اكتشفت محاولة السرقة قيدها هو و رفيقه و ألقاها من أعلى الجسر حيث لقيت حتفها غرقاً مما عرضه لمواجهة حكم الإعدام – حتى للمراهقين- طبقا لقانون الولاية التي ارتكب فيها الجريمة.
 

استمرت المحاكمة حوالي سبعة سنوات خلالها حاولت هيئة الدفاع تقديم أدلة تبرئة غير تقليدية، أبحاث الرنين المغناطيسي الوظيفي fMRI عن التطور العصبي للعقل المراهق والتي توضح أن المراهقين غير قادرين على اتخاذ قرارات ناضجة بالقدر الكافي مثلما يفعل البالغون بناءاً على الاكتشافات التي تم رصدها عن الاختلافات والتغيرات التشريحية والوظيفية بين مخ الشخص المراهق والشخص البالغ. هل هذه الاختلافات تعني أن المراهق غير مسؤول عن الجرائم؟ بالطبع لا ينكر أحد مقدرة الشخص المراهق عن التمييز بين الصواب والخطأ ولكن الجدل هنا في مقدرته على كبح تصرفاته أو السيطرة عليها؟ ومقدرته في تحديد عواقب الأفعال؟
 

وينقلنا هذا الجدل إلى الطريقة الجديدة تماما في التعامل القانوني مع السلوك الإجرامي الذي يقوم به فرد كوحدة واحدة إلى التعامل مع "المركز" المسؤول عن هذا السلوك في عقله، ليس بمفهوم المرض النفسي المتعارف عليه في المحاكم بل على مستوى الناقلات والوصلات العصبية التي قد تسبب في أحد المواقف الأفكار الإجرامية التي تؤدي بدورها إلى جرائم.
 

ومن هنا يتم إثارة الجدل حول مفهوم الأهلية القانونية. وهل المتهم فعلا مدان بجريمته التي فعلها عن عمد أم أن هناك مجموعة من الخلايا العصبية في أحد مراكز المخ مصابة بالضمور أو بالتضخم على سبيل المثال أو منشطة بشكل مفرط تسببت في هذه الفعل.

 

السيكوباتيين والـ neurolaw

عادة ما يطلق هذا التوصيف على الأشخاص المختلين نفسيا الذين يرتكبون جرائم وحشية وغير مقبولة إنسانياً ويتسمون بفقدان الشفقة والقدرة على التمييز بين الصواب والخطأ وعدم الخوف بشكل مغاير عن البشر العاديين.

منذ بزوغ هذا المصطلح في علم النفس في استعماله في وسائل الإعلام وصحافة الجريمة أصبحت السيكوباتية مجال بحث كبير في علم النفس ومن ثم أبحاث المخ البشري حيث اهتم كثير من الباحثين بدراسة عقول هؤلاء المجرمين الخطرين لمحاولة فهم ما يجري في عقولهم التي تنتج مثل هذه السلوكيات البشعة.

 

"برايان دوجان"، أحد المجرمين الذين يواجهون حكم الإعدام إثر خطفه لطفلة و قتلها بعد أن قام باغتصابها تم اسناد مهمة تحديد ما إذا كان سيكوباتياً أم لا لعالم النفس "كينت كيل" كشاهد خبرة حيث قام بعدة اختبارات تحليل نفسي خاصة بالسيكوباتيين و فحص مخي وظيفي له و لمجموعة من الأشخاص السيكوباتيين و آخرين طبيعيين كان فيها دوجان مماثلا للسيكوباتيين في نفس الاختلافات التركيبية و العصبية في المراكز المرتبطة بالمشاعر و الشفقة واتخاذ القرار و الصواب و الخطأ. لم تسمح هيئة المحكمة بعرض نتائج فحوصات المخ لدوجان بدعوى أنها قد تؤدي إلى إرباك هيئة المحلفين الذين اقتنعوا بإجرام دوجان ووافقوا على إقرار عقوبة الإعدام.

 

قضية دوجان تطرح الكثير من الأسئلة عن السيكوباتيين والتي توضح أن -على الرغم من وحشية التصرفات والدوافع الغير مفهومة- تلك التصرفات نابغة من تغيرات واختلافات بيولوجية متطرفة في عقل الشخص السيكوباتي وبما أن لكل منا بصمته العصبية حيث لا يوجد مخان متشابهان في التركيب والوظيفة في الواقع مخك صباحاً يختلف تركيباً ووظيفةً عن مخك بالمساء فمتى نقول أن هذا الاختلاف مرضي أم لا؟ مهما كان الفعل المرتكب وحشياً أو مقبولا بشكل ما. متى نقول أن هذا الشخص مجرم و هذا الشخص غير مجرم بل و يستحق العلاج و التأهيل النفسي أو حتى التدخل الطبي العلاجي إذا ارتكب جريمة؟

 

العديد من الأسئلة يطرحها ذلك التطور المطرد لل neuro science والفرع القانوني منه الـneurolaw والتي تعيد التفكير إلى المربع صفر في العديد من الثوابت القانونية الجنائية مثل مفهوم القتل العمد والسبق والترصد ويبدو أن -على الرغم من المعوقات التقنية- أن أبحاث المخ ستتخطى مرحلة تغيير مفاهيم ومبادئ العدالة والقضاء بل متوقع أن تصل إلى أن تكون فحوصات الدماغ هي أدلة القضاء الدامغة في إثبات البراءة أو الإدانة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.