شعار قسم مدونات

صديقي المُختفي قسرياً أمّا بعد

blogs - jail

 ربما أنت الآن قابع في مكان مُظلم خلف باب حديدي مُفرّغ يلقي بظلاله التي منحتها له أضواء مصباح الممر المرتعشة على مخدعك، مستيقظ لا تستطيع النوم من شدة الأرق وكثافة الأفكار المتداخلة في رأسك تكاد تفتك بك من شدة القلق، وربما أنت هادئ، وادع ومستكين قد غشيك النُعاس أمنةً منه ورحمة لا تلقي بالاً لما يحدث ولا تحمل همّ مصيرك قد أودَعتَه لله وتركت تنفيذ إرادته لأفعال سجانيك لا تبالي.

 

ربما هذا وربما ذاك وربما غيره، إلا أنّي لا أظن أنك تذكرني الآن فمهابة الأمرُ جعلته لا يسع مثلي لشغل حيّزٍ فيه، لكنّي أود أن أفضي بحديثي إليك، حتى وإن لم يصلك..

 

صديقي المختفي قسرياً أمّا بعد،

كانت تلك اللحظة التي علمت فيها خبر اختفائك محورية، قد تشكلت فيها عندي مفاهيم جديدة وتطورت مفاهيم أخرى وأطاحت ببعض ثوابتي وصار عندها اليوم بألف عام مما سواه..

 

لم أكن أعلم أن هناك ما هو أشد من جهل موعد اللقاء القادم، لم أكن أدرك أن جهل المصير هو أشد قسوة من كل ذلك.

الأملُ:

الأملُ يا صديقي لم يعد في منظوري رفاهية ودعوة للاستمرار، لم يعد محض ابتسامتك في وجهي، ولا كلماتك الطيبة تهدهد قلبي ولا شغفك الذي يتطاير شراره من عينيك. الأمل أصبح فُرصة أخيرة لتبقى على قيد الحياة، آخر نداء للاستمرار وعدم التوقف، اليدُ الأخيرة الممتدة لتساعدني على النهوض بعد أن خارت قُواي!

 

لو لم يتملكني حينها الأمل في كُذبان الخبر، أو عدم دقته، ولو لم يراودني بعد ذلك بأنها محض ساعات وتعود لتمارس مهامك الطبيعية في إبقائنا سعداء وتلعب دورك البطولي في قصتنا، لو لم أتمكن حينها من الحُلم بأنه سوف تجمعنا تلك المقهى ثانيةً وستستقي شايك بالنعناع الأخضر كما تحبه وسأظل طيلة الليلة أتجاذب أطراف الحديث معك لما تمكنت من الاستمرار.

 

الفقد:

الفقد يا صديقي اختلف معناه كثيراً، لقد عشت طيلة عمري أتمنى أن تكون علاقتي بالفقد أن أُفقَد ولا أفقِد، لكن جاءت مشيئة القدر بغير ذلك، والأدهى أنها جاءت بك. تذكر تلك الخاطرة التي قرأتها عليك يوماً عن معني الفقد؟!

 

"الفقد والموت يا رفاق وجهان لعُملة اختلفت صورتها واتحدت في مضمونها وقيمتها، أن تفقد أحدهم ففي الأمر وأد لحياة صغيرة قضيتها معه، ربما امتلأت بذكريات حُفرت على جدران القلب، فلا مفر من ذكراها ولا أمل في نسيانها! في الأمر بشاعة، ألم يُجمد العبرات في الأعين فلا هي تنساب فتنال راحة الضعف والانكسار ولا هي محبوسة فتجد قوة القسوة والشقاق! في الأمر صدمة تصيبك بهذيان الروح والجسد، وجنون الشعور والفعل، وصراع بين واقعيتك التي أذعنت بحقيقة الرحيل وهواك الذي يأبى التسليم لها، تجد هذه الثنائيات معاً وقد شكّلت مشهداً بدت فيه وكأنها تصطف في مراسم تشييع جثمان تلك الحياة الصغيرة بداخلك، الفقد معنى أشمل من الغياب وأعمق، مظلة الفقد تتسع لكثير من المعاني القميئة التي تورث القلب وحشة وتُثقل الروح بالهموم."

 

كانت تلك كلماتي عنه، لكني لم أكن أدرك أنها كلمات مجردة من الشعور الحقيقي وقدسية التجربة الذاتية، لم أكن أعلم أن هناك ما هو أشد من جهل موعد اللقاء القادم، لم أكن أدرك أن جهل المصير هو أشد قسوة من كل ذلك.

 

غيابك ليس في غيابك، غيابك في الرفيق الذي افتقدته في منتصف الطريق، في الصاحب في السفر، في النصيحة التي غابت والمزحة التي تذهب فلا تعود بصدى ضحكك، في سُخريتك منّي و شططي عليك وصبرك عليّ.

الاشتياق:

الاشتياق لم يعد تلك المحادثات الهاتفية الروتينية بيننا، لم تعد لحظات العناق الحارة عند اللقاء، ولا حديثنا المترامي الأطراف حتى الثالثة فجراً، ولا مبيتنا معاً قبل عودتك لبلدتك النائية آخر أيام الدراسة.

 

الاشتياق أصبح أن أمشي في الطرقات متفحصاً شباك كل عربة ترحيلات تمرُ أمامي عساني أرنو بريقَ عينيك من خلف حاجزها المظلم، أجلس وحدي على مقعدنا عند ضاحية المدينة، ذلك المقعد الذي جمعنا في السَمر لعلي أجد ريحك.

 

الإلف:

ربما هو أمر سيء أن تمر بك مصيبة، لكن الأسواء أن تعتاد ذلك المرور، أن تألف فجائية الغياب يورث القلب قساوة، ويشكك النفس في وفائها، يُخَلف مئات الأسئلة حول صدق الرابطة ووثاقيتها، عذراً وجدتني كالعادة تأقلمت بعد أن خفّت وطأة الصدمة وبدأت في الكتابة كما أفعل كل مرة.

 

شعرت حينها بخذلان أنفاسي التي توقفت فور سماعها الخبر، ها هي تعاود مسيرتها شهيقاً وزفيراً، شعرت بنذالة العبرات التي ما لبثت حتى جفت! لم أتمكن من المُضي قدماً مع قلمي وأوراقي حتى أقنعت هذه الخواطر أن ذلك ليس نقداً للعهد بقدر ما هو إلفاً للمصائب.

 

كل تلك المعاني يا صديقي تضافرت معاً ونسجت وِثاقَ غيابك الذي كبّلني..غيابك ليس في غيابك، غيابك في الرفيق الذي افتقدته في منتصف الطريق، في الصاحب في السفر، في النصيحة التي غابت والمزحة التي تذهب فلا تعود بصدى ضحكك، في سُخريتك منّي و شططي عليك وصبرك عليّ.

 

ربما مثل ما حدث يحدُث حتى نؤمن أنّا لا نُحسن تثمين الأشياء إلا بزوالها، لا نعي دفئ الحديث ولا نحسّ شغف الحركات ولا ندرك أنّا نُحب حتى يرحلون. لا يعود للقاء خصوصيته حتى نشتاق له فلا نجده، ندرك قيمة النصيحة والمشورة حتى نتسولها فلا نستطيع تحصيلها، وحينها فقط نتذكر أن الأوقات لا ترجع إلى الخلف وأن رحى الزمن لا تعود.

 

حتى نحفظ كل حرف يُنطق علّه يكون السلوى في لحظات الفراق، حتى ندرك ثمن الكلمات -وكم هو باهظ ثمنها- لهذا السبب أرجو إن وصلك خطابي هذا واستطعت الرد، فلا تفني الأسطر في مقدمات، وابدأ حديثك ابتداء من "صديقي، أمّا بعد.."

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.