شعار قسم مدونات

السأم

blogs - lazy

أشعُر بالسأم، وحالي هذا لا يعني أي أحد من القراء الذين يظنون أنني أريد تسلية ما، أعرف طفلاً كان يخبر أمه أنه يشعر مثلي بالسأم، فكانت بقلب محب تعرض عليه الذهاب إلى السينما، والملاهي، ومطاعم الوجبات السريعة أو زيارة أصدقاء يزيدون من سخطه، أمه تشبه كل من حولي، يظنون أنني أعاني من وحدة طويلة، تجعلني أختلق هذا الشعور، لكن السأم في واقع أمره ليس المفردة المضادة للتسلية.

 

في وقتٍ ما من هذا العالم، كانت تغريني فكرة الذهاب إلى السينما عندما كان أهلي يرفضونها، لكنها الآن لا تجذبني رغم استطاعتي للذهاب إليها في أي وقت، كنت سأضحك كثيراً إذا ما قدم لي أحد سيجارة قائلةً: سأجرب معك. لكنها الآن مجرد فعل من باب الإنكار أو الإعتياد، أحب كتبي، بيد أني أنظر إليها على أنها أصدقاء قدامى، أعرف ماذا يخبؤون لي، ليس من باب علمي بكل ما سيبوحون لي به، بل من باب أنني أعرف بأنني في وقتٍ لاحق قد أعرف.

 

السأم مزيج حاد وأجوف من اللاجدوى وفقدان شعور الصلة بالأشياء، معضلة لها عمق وليس لها كنه، إنني أتعامل مع أناس لا علاقة لي بهم، أعرف أنني كنت أحبهم، لم أفقد شعور المحبة، سأفعل معهم كل شيء لأسبب لهم حالة فرح، أحب فرحهم، لكن السأم تغذى على هذه المحبة، ذلك الذي لم يستطع أي معجم تفسيره على كونه أكثر من حالة ملل وضجر.

 

حاولتُ قبل مدة الخروج من هذا الشعور، ذهبتُ لأماكن لم أزرها قبلاً بغية الدهشة، تعرفتُ على أصدقاء جدد، انتقلت للسينما الفرنسية علني أجد فيها ما لم أجده في الأمريكية والإيرانية، لكن بطء أحداثها تواطأ مع سأمي، فعلتُ كل شيء قد يغير من شكلي الخارجي، لم أهتم أبداً إذا ما كانت جودة هذه التغيرات ستنقلني للأفضل، أردت الخروج من فكرة خلقت فيَّ سواد ممتد من الإنفصال عن العالم، لكن السأم يُحاصِر، لا يُفهم، لا يؤلم أيضاً، إنما يُرتكب بحق النفس بطريقة بشعة وجيدة مليئة بالفظاظة..

 

الطفل كان أحد شخوص ألبرتو مورافيا في روايته "السأم"، كبر وهو يرسم ويمشي ويسخط ويتأمل، دون خاصية الدهشة، عندما أصبح شاباً هرب من ثراء أمه

الجدات يلهون بالثرثرة، المريض يُعالج بالدواء، الجائع يُغذى بالطعام، الحزين تواسيه الكلمات، المُرهق تنقذه الراحة، المتملل يستمتع بالأحداث، المظلوم ينصفه العدل، الأيادي الممتدة في الشوارع تعزيها العملات المعدنية الصغيرة، لكن السأم، وحده، حالة متأصلة قابلة للتوسع والتمدد، دون أن يكون لها نداً قادر على ايقافها أو التقليل منها، كلما حاولت مناورتها منها تأتيني الإجابة دائماً: لا جدوى.

 

هل السأم معرفة أم عدمها؟ نذير شؤم أم ترح؟ تتزاحم الأسئلة ويختلج في الصدر ما يختلج فيه من لامبالاة حول إجابة لا أعرف كيف أكتبها، لكنني أشعرها في هذه اللحظة التي أحاول فيها تفسير مالا يُفسر..

 

الطفل الذي عرفته كان أحد شخوص ألبرتو مورافيا في روايته "السأم"، كبر وهو يرسم ويمشي ويسخط ويتأمل، دون خاصية الدهشة، عندما أصبح شاباً هرب من ثراء أمه، ظناً منه أن حصوله السهل المفرط على الأشياء خلق فيه هذا الشعور، لكنه سرعان ما مزق لوحاته هرباً من سأمه إلى سأم أكثر فظاعة.

 

مورافيا لم يُقدم الحل في نهاية روايته، رغم ظنه أن الحل يكمن في تفسير الشيء لا معالجته. معجزة لا تحصل إلا لماماً.

 

وأنا؟ مررتُ في حيثيات جعلتني أؤمن أن لا مخرج، تعايشت، لم أعد أخشى السأم، لكنني أخاف ما بعده، التوقف عن الكتابة، التوسل لنفسي حتى أتأثر بما كان يعذبني عاطفياً فيما مضى، شحذُ الضمير، الضحك رغماً عني، التنصل مما كنتُ أسميها أحلامي، والوقوف أمام شاحنة مسرعة أن هيا: ادهسيني.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.