شعار قسم مدونات

أول الشعر وغريزة عارف حجاوي النملية

blogs - book cover

أمامنا كتاب جميل بعنوان أول الشعر: عصارة الشعر الجاهلي والإسلامي والأموي للكاتب والإعلامي الأستاذ عارف حجاوي. كان سروري البالغ أن أطلع عليه وهو مخطوط قبل أن يذهب إلى المطبعة، فتحمست له وتعلمت منه الكثير، ولهذا الكتاب قصة تستحق أن أرويها وأن يعرفها القراء ويتحمسوا ويحتفوا بخروج هذا المولود الجديد.

 

قبل تعرفي إلى شخص الكاتب والكتاب، استمعت إلى تسجيلات من ديوان الحماسة وتسجيلات لأبيات مختارة من ديوان المتنبي بصوت عارف حجاوي، فتحمست لتتبع ما يكتبه الرجل ويصدره، ثم كان التعرف بكتاب أول الشعر.

 

قد تفسر لنا الغريزة النملية السبب في هذا التتبع للشعر العربي، لكن هناك سبباً آخر غير الأسباب التي قد تتبادر إلى الذهن مثل إفادة من يريد أن يتخصص، أو تسهيل الشعر على القارئ الهاوي

فهذا الكتاب أول الغيث، فهو المجلد الأول وسيأتي بعده كتب ومجلدات أربعة تروي قصة الشعر العمودي في كل العصور حتى يصل المؤلف إلى إيليا أبو ماضي في المجلد الخامس. وفي الكتاب زبدة دواوين امرئ القيس وزهير والنابغة والأعشى وحسان والأخطل والفرزدق وجرير وعمر بن أبي ربيعة وجميل بثينة. وفيه المختار المنتقى من المعلقات العشر جميعاً. وفيه أجمل ما ورد في كتب الأدب الأصول: المفضليات والأصمعيات والحماسة والوحشيات. وفيه فوق ذلك اثنتا عشرة قصيدة وجدها أفلتت من كل ما سبق، لذلك أخرج لنا مجلداً ضخماً يضم بضعة آلاف من الأبيات ومعه مقدمات لكل شاعر تضع القارئ في جو كل شاعر. قد انتقى كاتبه أجمل الأبيات وأقواها لأهم شعراء ذلك الزمن. ولاحق الشعراء المغمورين بلا كلال، ناخلاً كتب الشعر القديم نخلاً. ثم شرحهم شرحاً يصفه بأنه شرح حقيقي، ذلك الشرح الذي لا يغشك بتفسير الكلمة السهلة دون الصعبة.

 

والمشروع كله يستمد قوته الدافعة من الغريزة النملية للكاتب. فمنذ نحو خمس وثلاثين سنة بدأ يكتب الأبيات الجميلة التي تمر به في دفتر، وسرعان ما صار الدفتر عشَرة دفاتر. وسافر إلى لندن للعمل واصطحب دفاتره. وانتقل في العمل من قلم المترجم إلى لسان المذيع، وأخذ يذيع الكثير من هذه الأبيات الجميلة في برامج شتى، ومضى يختار الشعر الجميل. وزادت على دفاتره العشرة دفترين كبيرين.

 

بدأ يدخل حرم الشعر القديم. وبعد سنتين من صدور اللغة العالية، شعر أن اللغة القديمة طبقات فوق طبقات، وأن المعاجم تسعفك في أشياء وتخذلك في معظم الأشياء. يتمتع كاتبنا بما يطلق عليه الغريزة النملية مما جعله يمضي في لملمة الأبيات الجميلة من عشرات الكتب والدواوين، لم يرتب الأشعار في هذا الكتاب بطريقة معينة. قد التزم في الغالب الترتيب الذي في الدواوين، لكنه صنع فهارس بالقوافي، وجعل لكل باب مقدمة تطول أو تقصر،  فهذا الكتاب ليس فقط عن الشعر القديم، بل هو عن عارف حجاوي وعن تذوقه لهذا الشعر، وهو – في تلك المقدمات التي يكتبها – كتاب يُعنى بموضوع "الكتابة الحرة"؛ حرة بمعنيين كما يشرحهما في مقدمته: أولاً أنها ليست مقيدة بقيد الالتزام بالموضوع، وثانياً أنها نابذة للرواسم، أي الكليشيهات. هذه الكتابة التي اصطنعها كاتبها، والتي يبشر بها تبشيراً، هي الكتابة التي تشبه الكلام. ساعياً عن وعي إلى أن يحدثك وكأنك جالس بجانبه، منصرفاً عن رصف الكلمات بمثل ما رصفها كثيرون قبله. مقدماته لأبواب الكتاب مقصودة لذاتها.

 

وهو يعرض التراث الشعري القديم بطريقة جديدة وخاصة جداً. يعرضه عرضاً متخففاً من الصرامة الأكاديمية المضحكة، ويعرضه بالمفرق لا بالجملة، فصاحب الكتاب لم ينسخ لك القصيدة بغثها وسمينها، بل انتقى البديع الجميل من أبياتها، وسعى إلى إحكام الربط فيما بين الأبيات ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، وكلما أخذ من شارح قديم أو معاصر عبارة، ولو كانت من كلمتين، أشار إليه. وهو ولا يتناول موضوعه بالتقديس، ولا بالتبجيل، ولا بلهجة المعلم الصارم، بل بكثير من العبث والأريحية. ولا يومئ إلى أنه إرث متفوق على أُروث أقوام آخرين.

 

ومما تميز شرح المؤلف في هذا الكتاب وجعله مختلفاً عن الشروح الكثيرة لدواوين الشعر من الشروح القديمة والحديثة أنها كلها عتيقة، كلها تناقش مسائل في اللغة، وكلها في كثير من الأحيان يغضي عن بعض دقائق المعنى. وبرغم ما استعان به مما تيسر من شروح القدماء، فهذا تفسير من الأصمعي، وذاك تعليق من ثعلب، وهذا شرح مستفيض من الأعلم الشنتمري، أو من صاحب الأغاني الذي كان يشرح بعض ما يورد من قديم الشعر. لكنه لم يثقل كتابه بالمراجع والمصادر والحواشي السفلية، بل جعله سهلاً ممتعاً غير ممتنع على قارئه ومن يروم خوض لجاج بحر الشعر العربي.

 

يؤرق كاتبنا سؤال الجدوى والفائدة من جمع هذا الشعر في الوقت الحاضر، ويخلص إلى أننا قد لا نحتاج إلى كتاب أول الشعر في بناء نهضتنا، لكننا لن نخلع ملابسنا، ولا جلدنا، ولن نريق دمنا. وسنعود لنتصالح مع ماضينا، لكن مع فهم حقيقي له. ولنا بالشعر الجاهلي والأموي صلة، وفي أعماقنا كثير من أحداث تاريخنا.

 

الشعر يصف الروح العربية والعقل العربي أحسن مما تصفه كتب المفكرين. وهو يقدم لنا مثالاً بقصيدة عمرو بن كلثوم "إذا بلغ الفطامَ لنا صبي .. تخر له الجبابر ساجدينا" بأنها حتى لو كانت منحولة، ولو أنها كتبت بعد الجاهلية بمئة سنة، لا ضير. فهي تمثل في رأي الكاتب العصر الجاهلي وقيمه. والذي كتبها جعلها تعبر عن روح الجاهلية.

 

 قد تختلف مع كاتبه في أحكامه عن بعض الشعراء أو المساجلات الثقافية في تاريخنا الأدبي، مثل وحدة القصيدة العربية أو الشعر الجاهلي منحول أم غير منحول، وغيرها من القضايا، لكنك ستستمتع بالرحلة معه في عالم الأدب وتراث الجاهلية والعصر الإسلامي والأموي، في أشعار العرب تاريخهم وقيمهم وحياتهم التي لم يكتبوها تاريخاً بل كتبوها أدباً.

 

ولا يخلو الكتاب من هجاء شراح دواوين الشعر، لكن الكتاب لا يفضح الأسماء بل يندد بتلك الشروح، ومعظم الغضب كان على الأكاديميين المزيفين. لم ينس الكاتب توجيه الثناء للمحققين أو المجتهدين وخادمي التراث الأدبي مثل محمد أبو الفضل إبراهيم، ومحمد محمد حسين، ووليد عرفات، وعبد الرحمن البرقوقي، وفخر الدين قباوة، ومحمد محيي الدين عبد الحميد، وناصر الدين الأسد، وسيد "بن" علي المرصفي، وعبد الله العسيلان، وعبد العزيز الميمني، ومحمود شاكر، وشاكر الفحام، وحسن السندوبي، وأحمد شاكر، ومحمد علي طه الدرة، والمستشرق باول شفارتس، والمستشرق كارل بروكلمان، والمستشرق ردولف غاير، والمستشرق كارلوس يعقوب لايل، والمستشرق روكارت الألماني مترجم الحماسة إلى الألمانية، ويغيظيه وهو يبحث في دواوين الشعراء القدامى أن كل ديوان منها اكتشفه وسهر عليه أول مرة ثم طبعه مستشرق.

 

وقد تصالح مع عدم تجارية موضوع الكتاب أو اهتمام الناس به فكتب في المقدمة "ليبع هذا الكتاب مئة نسخة، ولتبق النسخ التسعمئة الأخرى في المخازن. قد عزمت، وقد توكلت على الله." رغم أنه صرف في هذا الكتاب ماء العين وبذل فيهم من الوقت والجهد ونكد الناشرين، ليخرجهم على أفضل هيئة، وقد أحسن الكاتب بتسجيله نصوص الكتاب على اسطوانة مرفقة مع الكتاب ليساعد القارئ على تذوق الشعر وقراءته قراءة صحيحة.

 

يلملم الكاتب أشياءه في عمر الستين ويهدينا هذا الكتاب الذي احتوى أبياته التي أحبها ودونها في دفتره، والكتاب حفل تأبين للشعر العمودي بكل عصوره من أول الشعر إلى تجدد الشعر ثم تألق الشعر إلى العصر الحديث، وهو سجل حافل بإنجازات الشعر العمودي في تاريخنا الأدبي، من حق المؤلف أن تطال رقبته بهذا العمل الدسم والذي يحمل عنوان "الزبدة"، الشكر للكاتب على مثابرته في جمع مادة هذا الكتاب وشرحها شرحاً حقيقياً، ثمة رسالة كامنة في ثنايا هذا الكتاب: لا للتشدد، الدنيا حلوة بتنوعها.

 

يؤرق كاتبنا سؤال الجدوى والفائدة من جمع هذا الشعر في الوقت الحاضر، ويخلص إلى أننا قد لا نحتاج إلى كتاب أول الشعر في بناء نهضتنا، لكننا لن نخلع ملابسنا، ولا جلدنا، ولن نريق دمنا. وسنعود لنتصالح مع ماضينا

قد تفسر لنا الغريزة النملية السبب في هذا التتبع للشعر العربي، لكن هناك سبباً آخر غير الأسباب التي قد تتبادر إلى الذهن مثل إفادة من يريد أن يتخصص، أو تسهيل الشعر على القارئ الهاوي، لكن هناك سبباً طريفاً نود ذكره حتى لو كره النقاد ذلك، صرح عنه الكاتب في لحظة مصارحة في الكتاب، وهو إنما جمع هذه الأشعار وراح يشكلها ويشرحها لأنه رجل حُرَكة. لا يجلس في اجتماع إلا بيده قلم يكتب ويرسم، ثم تمتلئ الورقة بعد دقيقة فيصنع منها سفينة. ويكون في بيته معتزلاً الناس، وربما لم يخرج منه يومين أو ثلاثة أيام، فهذا حين يقرأ وينقب تنقيباً فهو بالأحرى رجل قلق لا يقر له قرار.

 

من أحب أحلام يقظة كاتبنا إلى نفسه أن يسكن ديراً ليس فيه شيء من قلق وتوتر الحياة الحديثة، يعيش فيه وديعاً مسالماً، كما عبر عن هذا الأمر في إحدى صفحات الكتاب عند حديثه عن الحماسة، أظن أن عارف حجاوي قد بنى هذا الدير في هذا الكتاب وجعل من الشعر العربي مستراحاً من تسارع وتيرة الحياة، لقد أوقف ترنم الشعر تسارع دقات الحياة المعاصرة، وجعله يهدأ كراهب في صومعته بعيداً عن الأخبار العاجلة!

 

في الدنيا ما يشغل العاقل عن الشعر القديم. وحسب المتعلم أن يعرف قليلاً من خرافاتنا وأدبنا تكون له حبلاً سرياً يصله بلغته وأمته. ولا حياة لشعب بغير خرافات.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.