شعار قسم مدونات

الذين يبحثون عن الله في الهند

BLOGS- الهند

لست -وربي- ضد البحث عن الله.. بل أعتبر مهمة البحث عن الحقيقة مهمة عظيمة من شأنها أن تجعلك دائم الحركة في كنف الروح، التي تُجيبك على تساؤلاتك الوجودية، هذا شأن العقلاء الذين يسترشدون الطريق في هذه الحياة للوصول للإيمان النقيّ.. الحياة كلّها بعُجرها وبُجرها وحلوها ومرّها رحلة تجعلك تحثّ الخطى للبحث والسؤال عن الخلق والوجود. أن تجد ما تبحث عنه أمنية تشتاق لها نفوس الباحثين، وإدراك كُنه "المفقود" في هذا العالم المليء بالفلسفات هي معرفة يسعى لها الحالمون والعابرون من بوابة الأسئلة.
 

لست -وربي- ضد هذه الرحلة المليئة بمعاني الجدّية والمسؤولية والإقناع والحوار الذاتي العميق والتأمّل والمقارنة. الأمر أنّنا في الآونة الأخيرة نشهد حالات رومانسية غريبة من البحث عن الله.. اختلطت فيها حالات الغربة الشعورية وهيئات الانهزام التي يعيشها الشباب اليوم إثر واقع في غاية الصعوبة والتضييق -اختلطت- بموجات الارتباط بردّات فعل الجماهير والعلاقات الافتراضية بهم، ومدى إثارة تصرفاتهم لهؤلاء الجماهير، الجماهير التي تُتابع أدائهم على الفيسبوك بالضبط كما يُتابعون مباراة الكلاسيكو بين فريقي برشلونة وريال مدريد على قناة رياضية مشهورة حتّى صار تأثير هذه المنصّات الإلكترونية واضح جليّ على تصرّفات هذه الشخصيات بطريقة أذهبت هيبة المهمة العظيمة في البحث عن العظيم.
 

هل يبحثون بالفعل عن الله؟ لو أنهم يبحثون عنه فهل هم بحاجة لإخبارنا بذلك؟ وبالتفصيل؟ هل هي بحاجة لأن تُخبرنا أنّها لم تضع قطرة مكياج منذ سنتين؟ ماذا سيُضيف ذلك لي.. ولها؟

والمُتابع لهؤلاء يجد أنّهم يبحثون في "المكان" عن الله، يفتّشون في "الجغرافيا" عن الله، يسألون عنه في "التضاريس" وصورة "الأرض" الظاهرة.. والجغرافيا يا سادة قاصرة -في رحلة الروح والأفكار- شأنها شأن الحدود التي تُنهي قدرة شخص ما على استكمال مسيرة البحث لمجرّد أنّه يحمل ورقة ثبوتية مُعيّنة لا تؤهّله لعبور الخطوات التالية لمنطقة جغرافية أخرى لأنّه بكل بساطة أجنبيّ بدون فيزا..
 

الغريب أنّهم لا يجدونه إلا حيثما شاءت العولمة لهم أن يجدوه، في الهند أو النيبال مثلاً، أو بعد أن يتسلّق تلال سيوالك أو جبال الهمالايا هناك حيث شعوب التبت – سقف العالم. العجيب أنّني كلّما قرأت أنّ أحدهم أو إحداهنّ بدأت رحلة البحث عن الله في الهند بعيداً عن أي دين أو ملّة، تساءلت وبصوت عالٍ: الهند حقاً؟ هناك حيث البوذية والهندوسية والإسلام والجاينية والمسيحية والسيخية والوثنية.. وغيرها من الديانات الكثيرة والمُنتشرة في كلّ أنحاء الهند والتي تغصّ بالتفاصيل التي لا نهاية لها. فعن ماذا يبحثون بالضبط؟ عملية البحث هذه هل هي حقاً رحلة بحثٍ عميقة في الوجود والموجود؟ أم هي رحلة سياحية وعلى هامشها مساحة بحث باهظة التكاليف في المعابد والكهوف وورش اليوجا والفنادق الفارهة على قمم الجبال؟

لقد عشت في الغرب -السويد تحديداً- العديد من السنوات، تلك المملكة الباردة حدّ الصقيع، المُلحدة جداً، الحرّة جداً، درست معهم عملت معهم وصحبتهم في ميادين كثيرة.. وتعرّفت منهم على حكايات بحثٍ حقيقية بلا صور السيلفي الفيسبوكية.. وبدون مبارزات كلامية على المواقع الافتراضية أو تغريدات غير مفهومة يُصفّق لها البعض ويلعنها البعض الآخر في بيئة غير صالحة للبحث والسؤال.. منهم من انتهى به البحث حيث دين محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومنهم من انتهى به المطاف إلى اللاشيء، ومنهم من اهتدى لغير ذلك، ومنهم ما زال يبحث حتى الآن..
 

يبحثون في ذواتهم، يغوصون عميقاً في سرّ الخلق.. الكون سبب الوجود، الأهداف النبيلة، النظم المادية وكيف أنّها جنت على النظم القيمية والروحية، الأسئلة الوجودية، يقضون الساعات الطويلة بين تجارب الفلاسفة والكتب المقدّسة وصفحات التاريخ.. لا تجد لهم سيلفي تشهد بذلك ولا يزايدون بتصرفات عاطفية على أحد، لا ينزعون ثياباً ولا يكتسون أُخرى.. الزمان والمكان -عندهم- على هامش البحث، لأنّ السر في الوصول للجواب ليس حيث أنت حقاً ولكن حيث يأخذك عقلك، حيث تنتشلك أفكارك.. حيث تعرف أنّك موجود لأنّك ما زلت تحرق الكثير من الخلايا العصبية في مخّك كي تسأل عن ماهية الحياة وكنه الموت وما بينهما.
 

رحلات البحث عن الله هي تلك التي تُحرّك العواصف في العقل والقلب ولو كان الجسد ساكناً، وليست تلك التي تصنع العواصف من حولها ومن فوقها بينما العقل والقلب معلَّقون بعالم أزرق يُحصي عدد المُعجبين.

يأتيك هذا السؤال أحياناً وأنت تشاهد البعض يمارس معارك طواحين الهواء في نزع الحجاب مثلاً أمام جماهيرهم المُتابعة بدقّة لكل تفصيلية من تفاصيل حيواتهم.. يأتيك السؤال: ماذا يريدون حقاً؟ هل يبحثون بالفعل عن الله؟ لو أنهم يبحثون عنه فهل هم بحاجة لإخبارنا بذلك؟ وبالتفصيل؟ هل هي بحاجة لأن تُخبرنا أنّها لم تضع قطرة مكياج منذ سنتين؟ ماذا سيُضيف ذلك لي.. ولها؟ بل ماذا سيُضيف إن علمتُ يوماً أنّ سفر إحداهنّ لدولة تعاهدَ البعض أن يجعلها دولة البحث عن الإله رسمياً قد أدخل السرور لقلبها لأول مرة في حياتها؟ هل هي رحلة الذات السحيقة المرتبطة بالله مباشرة؟ أم هي رحلة جماعية يُصرّ البعض أن يجعلنا نمتطي وإياه/ا كل النوق في السوق بحثاً معه/ا عن أي شيء وكل شيء؟
 

لست أدري كيف لهؤلاء أن يُبرّروا رحلاتهم العلنية هذه بأنّهم: يُريدون أخيراً أن يتحرّروا من حجاب "الناس" وضغوطاتهم بينما يُدرك كلّ مُتابع أنّ ما يهم هؤلاء -فعلاً- هم "الناس" على صفحات التواصل الاجتماعية؟ لست أدرك كيف ينبغي لرحلة مقصدها "الله" أن تُصبح معركة تمرّد فيها فقء للعيون وفيها جيوش تقف بين الصفّين كما في قصيدة لإحدى الباحثات؟ لا أستطيع أن أفهم كيف يقوم أحد هؤلاء الباحثين والذي يدّعي الانعتاق من الظلمات والأحجبة ويدعوا للحرية وينبذ العبودية أن يحتفي بشاعر فينيقي يُعاني من الإسلاموفوبيا ويرمي تهم العمالة لنصف أمّة كاملة خرجت ضد ظالم دكتاتور يُسمّيه هو بـ "سيدي الرئيس"؟

في النهاية.. لست ضد البحث عن الحقيقة حقاً ولا يستطيع أحدٌ أن يمنع أحداً في هذا العالم الواسع أن يُثير التساؤل الذي يشاء بالطريقة التي يراها مناسبة. لكنّني على يقين أنّ رحلات البحث الأصيلة هي تلك التي تُحرّك العواصف في العقل والفكر والقلب ولو كان الجسد ساكناً، وليست تلك التي تصنع العواصف من حولها ومن فوقها ومن أسفل منها بينما العقل والفكر والقلب معلَّقون بعالم أزرق يُحصي عدد المُعجبين ساعةً فساعة. رحلات البحث عن الله مسيرة حياة.. وسرّ وجوديّ، وعلاقة صامتة بين النفس والسؤال، وعبادةٌ هادئة لا تشوبها مظاهر النجومية!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.