شعار قسم مدونات

عطر السيدة متتبعة الشغف.. "لوتس"

blogs - لوتس عبد الكريم

جلست في الانتظار أتأمل مسرح القاعة؛ قديم هو إلى حد ما كأنه لم يتجدد منذ أنشئ لا يزال ببنيانه الأول؛ بطلائه الأول وبأرضيته الأولى؛ هي قاعة المسرح في نادى الأطباء حيث تعقد الدكتورة والسياسية المثقفة السيدة/ هبة دربالة صالونها الثقافي شهريا. وكانت ضيفته ذلك الشهر الدكتورة / لوتس عبد الكريم.

 

تزداد وتعلو قيمة البشر بما شاهدوه وما قدموه؛ وتلك السيدة المرهفة شاهدت الكثير من زهوة جمال الثقافة المصرية ولمست بوجدانها العاشق للفن تفاصيل مؤسسيها؛ وقدمت الكثير للثقافة بإخلاص؛ قد أحبت الفنون بصدق وسعت خلف شغفها بها فانفردت بخصوصية في الفرص التي أتيحت لها للسفر والدراسة والاقتراب من رواد ذلك الزمن وملاحظتهم وكسب صداقتهم وثقتهم.

 

تلك الصديقة المخلصة والوحيدة للملكة فريدة خلال آخر ثلاث سنوات من عمرها والتي كانت فيها بمثابة الأم والأخت لها؛ وكأن الله قدر أرسلها لتلك الملكة السابقة لتشعرها بالحب والدفيء وتعوضها بذلك الحنان عما عانته من الوحدة القاتلة والهجران.

ولأنى شغوفة جدا بالزمن وبآثاره التي يتركها على الأماكن والبشر، جلست أتأمل المسرح بزمنه المرسوم على خشبته وستائره وأرضيته ومقاعده أقول في نفسي؛ هل يدرك حقا ذلك المسرح قدر السيدة التي توشك أن تجلس على تلك المنصة البسيطة على خشبته؛ هل يدرك حجم ثراء ذكرياتها وما عايشته؛ وكان يبدو أنه يدرك.. إذ أنه رغم بساطته كان يستقبلها بأفضل ما عنده؛ لم يكن هناك جمعا كبيرا؛ لكنه كان متنوعا يغلب عليه الخبرة والشعر الأبيض ويزينه بعض الشباب. جلسنا جميعا ننتظر قدوم تلك السيدة التي كانت صديقة مقربة من أسماء شكلت وجداننا.

 

كلنا أتينا ننتظر؛ لنستمع إلى سفيرة الزمن الجميل؛ جئنا متأنقين كأننا سنقابل ذلك الزمن ونصافحه؛ حتى أتت في أنسامبل أسودٍ أنيق أتت؛ وبوجهٍ جميل لم تبدل السنوات روح جماله وتعلو قسماته فيوض أنوار زمنٍ عاشته ولا زالت تعيش محتفظة به في قلبها؛ وبابتسامات جميلة قامت بتحيتنا نحن الضيوف يمنةً ويسارا. وفى هدوءٍ جلست وبخجل راقي تناولت الميكروفون وبدأت تحكى؛ وكنا ننصت. ننصت لها اذ تحكى كيف نشأت في أسرة ذواقة للفن فتكوّن عندها شغفٌ للثقافة وللدراسة والسفر وكيف تتبعت ذلك الشغف في خطوات حياتها.

 

ننصت إذ تحكى كيف أتى الأستاذ عبد الوهاب ليتعرف عليها بينما هي جالسة مع فريد الأطرش على طاولته في فندق بلبنان كانت تنزل فيه وعن صداقتهما القوية التي امتدت إلى أسرته؛ وكيف أهداها بعض تسجيلات ألحانه الخاصة بصوته وأفضى إليها بالكثير من اسراره وآرائه فيما حوله. ننصت إلى صديقة مصطفى محمود التي حكت كيف كانت تلتقيه وأسرته وكيف كانت تشكو إليه من متاعب الدنيا شأنها شأن باقي البشر فيجيبها ناصحا بأن تنظر في الكون وتتأمل قدرة وعظمة الخالق ورحمته وبأن تفوض الأمر إليه وألا تكثر من الشكوى.

 

وصفت إحسان عبد القدوس بأنه كان نقيا لا يساوم فيما يعتقده؛ وأنه كان كاتبا سياسيا من طراز خاص وأن من يعرفه بحق لا يغضب من نقده أبدا لأنه صادق فيما يشعر به وما يعبر عنه.

تلك الصديقة المخلصة والوحيدة للملكة فريدة خلال آخر ثلاث سنوات من عمرها والتي كانت فيها بمثابة الأم والأخت لها؛ وكأن الله قدر أرسلها لتلك الملكة السابقة لتشعرها بالحب والدفيء وتعوضها بذلك الحنان عما عانته من الوحدة القاتلة والهجران من الأهل والأبناء؛ ولكي تشهد وتنقل لنا ما عاشته تلك الإنسانة النبيلة في حياتها من قسوة تبدل الأحوال؛ وكيف واجهت كل ذلك بإيمان قوى بالله وكرامة.

 

السيدة التي كانت تربطها صلة قوية بالأديب يوسف السباعي وعائلته؛ حتى أنه كان يرسل إليها سيارته الخاصة بالسائق عند عودتها من سفراتها لكي تنزل دوما عنده في بيته مع العائلة؛ حكت لنا كيف تعرفت عليه لأول مرة وهي ذات ستة عشر عاما؛ ووصفت كم كان جميل الطلة؛ فارسا في خطوته وفى خلقه وفى كلمته التي يكتبها.

 

وإحسان عبد القدوس؛ لم يفتها أن تحكى عنه؛ فقد وصفته بأنه كان نقيا لا يساوم فيما يعتقده؛ وحكت لنا كيف كانت تتبادر أفكار رواياته إلى ذهنه من خلال تأملاته للناس؛ وأنه كان أيضا كاتبا سياسيا من طراز خاص وأن من يعرفه بحق لا يغضب من نقده أبدا لأنه صادق فيما يشعر به وما يعبر عنه.

 

أتت الدكتورة لوتس وهي تحمل الزمن الجميل بأسمائه وأسراره وكواليسه في حقيبتها السوداء الصغيرة. لا ريب أن في قراءة قصيدة الشعر وتذوقها متعة وفى الاستماع إلى الأغنية الجميلة متعة وفى قراءة الرواية الجميلة متعة؛ ولكن الإنصات إلى من شاهد كاتب تلك القصيدة وهو ينظمها وملحن تلك الأغنية وهو يدندنها وكاتب تلك الرواية وهو يتبادر إلى ذهنه فكرتها لهو كل المتعة؛ متعة المعايشة؛ متعة التخيل ومشاركة الحدث؛ متعة معرفتهم عن قرب كبشر وما كان خلف طاقاتهم الإبداعية تلك من أفكار وحزن وقلق وغضب ومخاوف وثورات وشكوك وأسرار ومفاجآت؛ فبريق الإبداع أخاذ يثير الشغف لاكتشاف ما وراءه.

 

تلك السيدة التي دفعها شغفها إلى إصدار أول مجلة ثقافية مصرية مستقلة تهتم بكل أنواع الفنون والثقافة؛ السيدة التي تضرب مثالا في السعي بإرادة وراء شغف الروح؛ حتى تسنت لها فرص أكبر مما حلمت به. الدبلوماسية المرهفة المشاعر التي عشقت السفر وطافت العالم؛ ولكنها ظلت محتفظة بعشقها لمصر ولكل ما هو مصري وعاشقة لمدينتها الإسكندرية بشكل خاص مفضلة إياها على كل مدن العالم؛ حتى أن لهجتها المميزة لم تتغير.

 

روت الكثير عن الماضي وتحدثت عن الحاضر بأسى؛ يدهشك أسلوبها الحازم في التعبير عن وجهة نظرها ورأيها الحر؛ احترامها لخصوصية بيوت اصدقائها؛ فهي لم تخض فيما يضرهم. سيدة شهدت تبدل الأحوال وتغير الزمن وسريانه؛ وظلت محتفظة بذكرياتها الثمينة؛ ألم تقل أحلام مستغانمي "إن أثرى النساء ليست التي تنام متوسدة ممتلكاتها؛ بل من تتوسد ذكرياتها"؛ فمن يملك مثل كل تلك الذكريات مجتمعة.

 

جلست تحكى ونحن ننصت في استمتاع نسألها فتجيبنا؛ ونذكرها بالأحداث الرئيسية فتتذكرها وترويها بتفاصيلها الخفية لنا وقد تنسى بعض الأسماء أحيانا فنذكرها بها تذكير من يحفظ الاسم لمن يحفظ الروح والوجه. حتى أوشك الوقت أن ينتهي؛ ولكن الحديث كان لايزال مسترسلا والذكريات كثيرة لا تتسعها أمسية واحدة أبدا.. وفى النهاية صعدنا إليها لتوقع لنا كتبها التي اهدتنا إياها؛ كانت جميلة فرحة بالترحيب معتزة بتاريخها؛ وقعت لي وحدث أن فرغ القلم الذي كان معها؛ فناولتها قلمي فأخذته تكمل به التوقيعات. حتى انتهت فأخذت القلم ودسسته بسعادة في حقيبتي.

 

عدت إلى بيتي لا أريد أن اتحدث مع أحد؛ أريد فقط أن أحتفظ لأطول فترة بتلك الحالة التي كنت للتو أعيشها وسط ذلك الواقع التي تسيطر عليه الماديات والمليء بالقلق والذي أصبح الجمال فيه قليلا؛ وفى هدوء جلست إلى حاسبي وبدأت أكتب ما سمعته وما شعرت به حتى انتهيت؛ وأثناء ذلك تذكرت القلم فقمت إلى حقيبتي وأخرجته وتأملته فإذا برائحة عطرها به عطر "لوتس عبد الكريم" يحملني إلى زمن جميل ويغريني لكي أفعل مثلها وأسعى خلف شغف روحي ولكن في زمني هذا؛ فمن يدري ما الذي يمكن أن يحدث؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.