شعار قسم مدونات

البرتقال بقشره ودمه: حكايتنا

blogs - البرتقال
الشتاء دافئ، وأمي تجمعنا حولها، تقشِّر البرتقال وتضحك.

 

الفص الأول: العالم

قطٌ يمضغ فأرًا، بينما يتسلى بمتابعة التلفاز. على شاشة التلفاز، قط يطارد فأرًا. إذا أخذنا في الاعتبار، أن القط يتابع المشهد بنفس النهم الذي يلتهم به فأره، فما هي المحصلة؟ المحصّلة أن لدينا قطًا يلتهم فأرًا، ويلتهم آخر، في الآن نفسه. أنا وقطي نقوم بمتابعتهم على شاشة التلفاز، وقطي ينظر إليها بارتياب!

 

الفص الثاني: كهرباء الأمن القومي

الموجب: "الحياة حلوة، حلوة؛ لكنها حمراء"، هكذا قال السجين. لكن الحياة ليست حمراء، إنما هو دم سال من وجهه نحو عينيه؛ إذ كان معلّقًا من رجليه، والضابط يتابع بنفسه نتيجة التجربة. صرخ الضابط فيهم: الحياة حلوة، حلوة فقط، هذه هي النتيجة التي أريدها، أتفهمون؟

السالب: فكُّوا رجليه وأنزلوه، وبمساعدة اثنين من أمناء الشرطة، أوقفوه. اقترب الضابط وقال: قُل الحياة حلوة؛ لكن السجين بصق دمًا في وجه الضابط، وسبّه همسًا: يا ابن الزانية.

الُمتعادل: أرقدوه على ظهره؛ قتلوه.

 

الفص الثالث: إذن بقية الأيام

فتح دفتر الحضور والانصراف، ووقع باسمه في خانة الحضور: أحمد العارف، وشرع يغلق الدفتر؛ لكنه سدد نظره إلى خانة الانصراف، ووقع أيضًا: أحمد العارف. بعد الظهر، سقط مغشيًا عليه، وبمحاولة إفاقته، عرفوا أنه قد مات. انفض سرادق العزاء، لكن هناك ما يخصه في عمله، لم يُفض بعد. زملاؤه طالبوا الشركة بأن تدفع لأهله بقية مستحقاته؛ وطالبهم المدير بدفتر الحضور والانصراف! اتصل بالزميلة وسألها: في أي ساعةٍ مات؟ تعمل في الشركة منذ أربع سنوات، لكن ما زال لديها شيء من العجب؛ ولديها الكثير جدًا من الرضوخ يمنعها من "لماذا": الساعة الثانية بعد الظهر. أقفل المدير الخط، وذهبت يده إلى خانة الانصراف إياها وشطب منها اسم أحمد العارف، وكتب أمامها: إذن نصف يوم.

 

الفص الرابع: الاعتراف

كلٌ منهم يراجع الخطايا التي سيرتكبها اليوم، كلٌ منهم يرتجف. ويدخل المدير. كلُ منهم يعترف أن: صباح الخير يا فندم.

 

الفص الخامس: تمائمٌ عصرية

تسع صور على جدارٍ كالح اللون، ثُبت كل منها بمسمار، ومن كل مسمار تتدلى ربطة عنق، بحيث تُحيط بالصورة كما تُحيط بالرقبة. لدى القبض على تسعة من أصدقائه، طرق باب الجيران والمعارف حتى يدبر أمر هذا العدد من ربطات العنق، عدد تدبيره ليس بالهين في منطقة شعبية. المشنقة: ربطة عنق للأعلى، التميمة التي تُبطلها: ربطة عنقٍ في وضعها الطبيعي: تتدلى للأسفل. هذا خلاصة ما فهمه من منطق الأمهات في عمل التمائم لدرء الحسد، حتى أنه فكر في استخدام العروس الورقية ووخزها بالإبرة ليحمي أصدقائه؛ لكنهم معتقلون وليسوا محبوسين.

 

 ثُم… هل يفقأ عين القاضي أولًا أم عين السجّان؟ ربطة العنق أعلنت عن نفسها كتميمة مثالية. يقضي معظم الليل يتأمل الصور ويتأمل ربطات العنق، تمائمه التي حرص على ألا تُرفع من مكانها، ولو لحظةً، وصل به الأمر أنه إذا اتسخت واحدة منها، فإنه يغسلها في مكانها، بعد أن يحمي الصورة بشريط لاصق حتى لا تبتل. في الصباح، جاءه الخبر" حولوا جميعًا إلى محاكمة عسكرية". العم منجد، أشهر حائك في الشارع، يمارس اليوم أغرب خياطةً مارسها في حياته، خياطة ليست كالخياطة، يخيط تسع ربطات عنق إلى بعضها بحيث تصير في النهاية واحدةً فقط. وصاحب التمائم في غرفته يتأرجح جسده المشنوق، بينما ظله يجتاز صور أصدقائه في الذهاب والإياب، كالبندول.

 

قال النحّات الشاب لأصدقائه: سأصنع تمثالًا لأم كلثوم، كذلك الموجود في دار الأوبرا، بإمكان منديله أن يمسح دموع الناس.

الفص السادس: خُذ! نصيبك من الخوف

لقد سقط إلى الخلف، يقول لي الزبون الذي دخل توًّا إلى المكتبة.

أسأله: ما الذي سقط إلى الخلف؟

فيجيبني: كتاب، كتاب … آه أظن اسمه حصار حلب.

انصرف الزبون بعد أن سأل عن كتابٍ غير موجود. مددت يدي، وتناولت الكتاب، مسحت عنه الغبار الذي لحق به لدي سقوطه في الجانب المعتم من الرف. هؤلاء قرّاء وليسوا شبّيحة، وأنت بين إخوانك من الكتب، حدثتُ الكتاب وأنا أربّت عليه. ثم تحركت به تجاه الرف المقابل، توقفتُ، ومسحت بسبابتي اليسرى على العنوان حرفًا حرفًا، وقلتُ أطمئنه: حتى هذا لا يستطيع أن يؤذيك، قلتها وسبابتي اليسرى تتحرك لتشير إلى كتابٍ يحمل غلافه صورة "بشار الأسد".

 

 وزيادةً في بث الطمأنينة في نفسه، ضحكت وأنا أضرب به كتاب "بشار الأسد"، ليسقط الأخير في الجانب المعتم، وأقيم كتاب "حلب" مكانه. كان يختبر الوقوف، ككتاب خرج من المطبعة توًّا. انتظرتُ أمام الرف، وثبّتُ يديّ أسفله، وانتظرت حتى رسخ في قلبي أن الكتاب لن يسقط. العاقبةُ عندكم يا أحباب، من قضى أول يوم في العام الدراسي بصحبة طفله، ولم يتركه حتى أمّن له جلوسًا في المقعد الأول، يعرف ما اختبرته. في هذا العالم، يأخذ كتابٌ عن الحصار نصيبه من الخوف، تمامًا كالذين حوصروا!

 

الفص السابع: لسان العصفور

صاروخ، برميل، دانة،.. أخذ الصغار يتبارون في وصف حبيباتهم: بنات الصف، وبنات الجيران، وبنات الخيال. الصاروخ: البنت الجميلة؛ البرميل: للبدينة، أو للسخرية من حبيبةٍ لصديق؛ الدانة: للفتاة الممتلئة، ولكنها لا تخلو من جمال. الحربُ غيرت جغرافيا المكان؛ لكن جغرافيا الزمن تماسكت وصمدت: أوقات اللعب لم يشملها دمار المباني. انتبهوا إلى أن صديقهم سليمان لم يصف حبيبةً، ولا سخر من حبيبة صديق، فبادره أحدهم: وانتا شو حبيبتك يا سليمان؟ فأجابهم، وهو ينظر إلى السماء: عصفور. برميلٌ متفجرٌ واحد، كان كفيلًا بتصحيح هذا الشذوذ اللغوي.

 

الفص الثامن: خيال فنان ثائر مخبول!

قال النحّات الشاب لأصدقائه: سأصنع تمثالًا لأم كلثوم، كذلك الموجود في دار الأوبرا، بإمكان منديله أن يمسح دموع الناس.

 

الفص التاسع: شبّاك حبيبي

كوّة في جدار البيت، المواجه للمسجد، هي كل خسائرهم منذ بدأت الحرب. كلما أتوا على ذكرها، ينظران سويًا ناحية ابنهما، ويتنهدان في ارتياح، ويحمدان الله أن لم يصبه سوء. بل يتبركان بها؛ إذ جعلت بيتهما يطل مباشرةً على المسجد، خصوصًا الزوجة التي تتكرر رؤيتها للمسجد، من خلال الكوّة، وهي تقضي مشاغل بيتها من تنظيف وسواه.

 

 ما لم يكُن مفهومًا، هو تعلق الصغير بالكوّة، وقضاؤه ساعاتٍ من الليل ساهرًا يسند ذراعه على حافتها، ويتطلع إلى ما لا يعرفان. ظروف الحرب، وشغف الصبي بالكوّة، أكسباها عنصرًا سحريًا، بحيث أنهما كانا يخشيان أن تبتلعه، كأنها جنية البحر، تلك التي سمعا عنها في طفولتهما. الكوة مسدودة؛ والبقعة، التي كان ينيرها الضوء الذي ينفذ من خلالها، مظلمة؛ وفي صالة البيت، جرت محاكمة الصغير لأبويه.

 

وجهه نحو أبيه، وضمير الخطاب في كلامه موجه نحو أمه: أنتِ، وصراخه يملأ الصالة يقتسمه الأب والأم سويًا: يعني ثلاثة أرباع الغضب لأبيه، والربع لأمه. مهما حصل، لا يستطيع أن يوجه غضبه مباشرةً نحو الأب، وجود الأم يعمل كوسطٍ ملائم لنقل هذا الغضب؛ الحرب علمت الصغير المناورة. نفّس عن غضبه، وأدار لهما ظهره، لكنه توقف للحظةٍ، وتسرّبت من عينيه دمعة مقهورة، وقال بصوت مخنوقٍ، وهو يشير إلى الجدار: هلأ من وين الله بيدخل؟!

 

الجو باردٌ كأنما شتاء حل ضيفًا على الشتاء. انتهيتُ من برتقالتي، ورفعتُ عينيّ إلى وجه أمي لأطلب أخرى؛ لكني وجدتها تُخرِّط البرتقالة، كالبصل، وتبكي!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.