شعار قسم مدونات

مراجعة الخطاب الإسلامي

blogs - Ali Gomaa

سبق أن أشرت في تدوينتي السابقة إلى ضرورة مراجعة الخطاب الإسلامي، وأن ما يعتري الخطاب الإسلامي من تشوهات يمثل أحد أبرز دوافع الشباب للإلحاد، وغني عن التوضيح أننا نقصد بالخطاب الإسلامي هنا ما يعبر به العلماء والمثقفون والمفكرون عن فهمهم لقضايا الإسلام ورؤاه، وعليه فنحن نتحدث عن خطاب يصدر عن المسلمين.

 

والمتأمل للخطاب الإسلامي السائد هذه الأيام يجد أنماطا متعددة منه، أكثرها يساهم في تشويه صورة الإسلام، ودفع الشباب نحو الإلحاد، وبنسب متفاوتة.

 

من أخطر أشكال الخطاب الإسلامي المشوه، ما يصدر عن فئة من أنصاف المثقفين والمفكرين والمتعالمين، الذين يتناولون قضايا الإسلام بصورة مشوهة مجتزأة

فثمة خطاب منافق للسلطان، ومداهن لأصحاب القرار، يصدر عما اسميه علماء السلطان، أو علماء الكراسي والمناصب، ومشكلة هذه الفئة من العلماء والمفكرين أنها تلبس نفاقها ثوب الإسلام، وتفصل الإسلام على مقاس الحكام، بل وتبرر لهم الدكتاتورية والقمع والظلم والقتل، فيبدو الإسلام من خلال هذا الخطاب، نصا منافقا متلوناً، قابلا للتفصيل على كل المقاسات، وإرضاء أصحاب الأهواء والسلاطين. ولكم أن تتصوروا مدى المرارة والسخط الذي يخلفه هذا في نفوس الشباب، مما ينعكس على نظرتهم إلى الإسلام.

 

ولا يخفى علينا انتشار نمط من الخطاب المتطرف المتشدد، الحرفي الظاهري، يرى من يتبناه أنه السبيل الأمثل لفهم الإسلام، بل هو في نظره الإسلام الصحيح، وهذا الخطاب شدد على الناس في حياتهم ولباسهم، وعلاقاتهم، فغطاء الوجه للنساء واجب لا يقبل نقاشا، ولا بد من الفصل الحاد بين الرجال والنساء في المجتمعات، ولا يصح للمرأة أن ترى الرجال أو أن يراها الرجال، ومن ثم عند بعضهم لا يصح للمرأة أن تتعلم، ولا أن تعمل، بل إنني سمعت بعضهم يحرم تعليم المرأة في الجامعة، وبعضهم يعد خروج المرأة للعمل عورة، ولا زال صوت المرأة عند بعضهم عورة، والمعازف محرمة، وغير هذا الكثير من مفردات الخطاب والطرح، الذي أقل ما يقال فيه، أنه لا يمثل الفهم الوسطي للإسلام -من وجهة نظري- أو على الأقل ليس هو الفهم الوحيد للإسلام، فثمة أفهام أخرى وإن كان صوتها في كثير من الأحيان خافتاً. وهذا الخطاب فضلا عن كونه شكل بيئة خصبة لمزيد من التطرف والتكفير، الذي أفرز داعش وأخواتها، فإنه أسهم إسهاما لا يخفى على ذي لبٍّ في دفع الشباب إلى الإلحاد، والبعد عن الإسلام، بل والسخرية منه.

 

أما الخطاب العرفاني المتصوف- وليس بالضرورة أن يكون أصحابه متصوفين- المغرق والمسرف في بناء الآمال، وتعليق حلول المشكلات التي تواجهها الأمة، على معجزة أو كرامة إلهية ، فبحسب هذا الخطاب، الله هو الذي سيحرر المسجد الأقصى، وهو الذي سيدمر إسرائيل، وهو الذي سيحرر العراق، وسيدمر روسيا، وسيحطم بشار، أو يغرق السيسي كما أغرق فرعون، وهكذا، وينسى من يردد هذا الخطاب أن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابة رضوان الله عليهم هزموا يوم أن قصروا في الأخذ بأسباب النصر في معركة  أحد، وأن إرادة الله لا تخضع لأهوائنا وآمالنا، وأننا مطالبون بقائمة طويلة من المهام والأخذ بالأسباب والإصلاحات، قبل أن نطلب تدخل الإرادة الإلهية لصالحنا، فنحن المطالبون بتحرير المسجد الأقصى ونحن المطالبون بالنهوض بالأمة، ونحن الذين سنهزم أعداءنا، وليس أحد غيرنا، والإرادة الإلهية لن تتدخل إلى جانبنا ولن تحابينا، إن لم نقم بواجبنا.

 

وقد صوب ربنا تبارك وتعالى فهم بعض الصحابة الذين أساؤوا فهم دور الإرادة الإلهية في معركة أحد فقال سبحانه: " أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" "آل عمران 165. ولا أظنه يخفى على أحد مدى خطورة هذا الخطاب، وانعكاسه السلبي على الشباب ودفعهم إلى الإلحاد، لأنه سيبدو لهم وفق هذا الخطاب أن الله نصر الظالمين، وتخلى عن المظلومين، وترك عباده المؤمنين ولم يستجب لهم، وسيقول عندها بعض هؤلاء الشباب أين إلهكم الذي لا يهزم إسرائيل؟ وأين ربكم الذي يدع السيسي وبشار وبوتين يوغلون في دماء المستضعفين؟ ولن يجد أصحاب هذا الفهم والخطاب إلا الحوقلة والاستغفار وكبت تساؤلات هؤلاء الشباب، لئلا يصيبهم الله بعذابه وسخطه، وسيبقى الشباب محبطين، ولا يجدون جوابا.

 

ولعل من أخطر أشكال الخطاب الإسلامي المشوه، ما يصدر عن فئة من أنصاف المثقفين والمفكرين والمتعالمين، الذين يتناولون قضايا الإسلام بصورة مشوهة مجتزأة، مدفوعين في كثير من الأحايين بالرد على الخطاب المتشدد الذي تحدثنا عنه آنفاً، فعندهم الحجاب ليس واجباً، بل هو عادة اجتماعية،  وليس في الإسلام ما يحدد ما هو الحجاب، والحرية في لبس ما يخرج عن ضوابط الشريعة هي روح الإسلام، وليس في الإسلام ما يلزم بالأخذ بالسنة، والغناء الهابط فن ينسجم مع الإسلام، والانحلال الخلقي حرية،  بل أصبحنا نسمع من يقول: إنه ليس في الإسلام ما يحرم الخمر، ومن يقول بأن الربا حلال، والضوابط الدينية والاجتماعية قيود لا تنسجم مع الحريات، وعنوان الكرامة والتكريم عند أهل هذه المفردات هو التمرد على المجتمعات والقيم، وما يسمونه القوالب الجاهزة، والمشكلة أن هذا أيضا يطرح باسم الإسلام، ولعل هذا الخطاب من أخطر الأنماط السائدة خطراً على عقول الشباب، وأكثرها إسهاما في إغراقهم في بحر الإلحاد، تتقاذفهم أمواج الحيرة والشك.

 

ولا يقف الأمر عند إساءة هذا الخطاب للإسلام، وخطيئة هذه الأنماط من الخطاب، فمما يزيد الطين بلة، مجموعات العلمانيين المتربصين بالإسلام الفكري والسياسي، فضلا عن قائمة من الفضائيات ومنابر الإعلام والتوجيه، التي تستثمر خطاب الفئات السابقة لتحقيق مآربها السياسية والفكرية، بل تستثمره وتركز عليه، وتحاول أن تقدم بديلاً أكثر تشويها للإسلام، يريد أن يقصي الإسلام عن ميادين السياسة والحكم.

 

إن بقاءنا في أبراجنا العاجية وبعدنا عن مجتمعنا وشبابنا وبناتنا، وعدم الاقتراب منهم ومعايشتهم وفهم المشكلات التي يعانونها، وتقديم الحلول لهم، سيحملنا المسؤولية أمام الله أولا، وأمام أمتنا وتاريخنا ثانيا وثالثا وإلى ما لا نهاية

وفي ظل هذه التحديات التي تواجه خطابنا الإسلامي، وما أفرزته من هذا الهجوم الإلحادي، لا بد من تحمل المسؤولية وإصلاح الخطاب الإسلامي، وأحسب أن هذا الأمر تتصدى له فئة قليلة من علماء الأمة ومفكريها، وبقدر غير كاف، والذي يوصلني إليه اجتهادي-وأرجو أن أكون مصيبا-أننا بحاجة إلى خطاب وسطي متوازن، عقلاني وحكيم، يعتمد التيسير لا التعسير، والتبشير لا التنفير، ويبتعد عن الغلو والتطرف، ويركز على منهجية الفهم الصحيح للإسلام، والدور الذي ينبغي أن نتحمله في مواجهة أعدائنا: من الأخذ بالأسباب، وإصلاح ذواتنا ونفوسنا، ومن حولنا، وأن النتائج لا بد لها من مقدمات وأسباب، وأنها لن تتحقق (النتائج والطموحات) إلا إذا تحققت (الأسباب والمقدمات) ولو بقينا نلجأ إلى الله طيلة حياتنا،  وأن الله لن ينصرنا إن لم ننصره وننصر أنفسنا، ولو تكالبت علينا أمم الأرض كلها.

 

لا بد أن يفهم الشباب أن الله يريد بنا اليسر، ولا يريد بنا العسر، وما جعل علينا في الدين من حرج، وأن الفتاة المسلمة تملك أن تخرج دون غطاء وجه وتستر باقي جسدها، طبقا لمواصفات شرعية لا قوالب جامدة، وتملك أن تتعلم وتحصل أفضل الدرجات العلمية، وتملك أن تعمل وتخرج إلى المجتمع، وتشارك في الحياة السياسية والاجتماعية والحزبية، وفق ضوابط شرعية محددة وميسرة وفي غاية السهولة واليسر، وأن الشاب يملك حريته ورأيه وكرامته، وأن الإسلام يحترم كينونته وحقوقه، ويكرم إنسانيته وآدميته. وأن الإسلام يحافظ على غير المسلمين ويمنحهم حرية اعتقادهم ويحمي ممارستهم شعائرهم وعباداتهم وما ارتبط بها من حقوق، وأن حقوق الإنسان مراعاة في الإسلام وتفوق ما لدى الحضارات كلها، وأن ما نراه من إساءات وخطاب خاطئ وتصرفات لا تتناسب مع هذا إنما هي أخطاء المسلمين لا أخطاء الإسلام.

 

وبعد فإن بقاءنا في أبراجنا العاجية وبعدنا عن مجتمعنا وشبابنا وبناتنا، وعدم الاقتراب منهم ومعايشتهم وفهم المشكلات التي يعانونها، وتقديم الحلول لهم، أقول بقاؤنا علماء ومفكرين ومثقفين، على هذه الحال سيحملنا المسؤولية أمام الله أولا، وأمام أمتنا وتاريخنا ثانيا وثالثا وإلى ما لا نهاية.  

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.