شعار قسم مدونات

ما بعد حلب.. كانت أنقرة!

BLOGS- مقتل السفير الروسي

في صباحٍ اعتيادي، استيقظ الشاب باكرًا متفائلًا كما اعتاد ليستعد للذهاب لعمله. يتناول وجبته الأولى في اليوم بعدما يستحم وبينما صوت التلفاز في الخلفية، يتحرك الشاب تجاه دولاب ملابسه، يرتدي ثياب عمله ويكثر من طبقات الملابس تحتها ويضع درعًا مضادًا للرصاص على سريره ليصحبه معه قبلما ينطلق لعمله فخطر هجمات "حزب العمال" قد يتربص به في الطريق..
 

أصوات الانفجارات والتكبير تتوغل كلام المراسل في تقريره اليومي عن ما يجري في سوريا. براميل متفجرة تسقط فوق المدن عموديًا وقد تتأرجح في طريقها أثناء الهبوط كما تتأرجح أجساد المدنيين من أثر الانفجار والشظايا بينما أرواحهم تتصاعد عموديًا بشكل أكثر استقامةً من سقوط البرميل، يطفئ الشاب التلفاز ويغادر.
 

تقصف روسيا في كل سوريا بدعوى محاربة الإرهاب فتقتل أضعاف وأضعاف ما يقتل الإرهاب هناك، لا يراه منطقيًا، هي تقصف كما يفعل حليفها في دمشق.

يستقل سيارة العمل بعدما يمر به صديقه لاصطحابه، يلقي عليه التحية بحماس، هما في مقتبل عمرهما وعملهما مستقر وناجح حتى وإن كان محملًا بالأخطار فلا يُهم ذلك كثيرًا. يقود صديقه السيارة في طريقهم لمقر العمل، يتأمل الشاب من النافذة في الحدائق العامة والشوارع فيجدهم يفترشون مقاعدها نيامًا؛ ملابس بعضهم رثة بالكاد تسترهم من الأعين ولا تسترهم من الصقيع بأي حال. ينتقل بعينيه للجانب الآخر ليحدث صديقه وقد تشبث بمقود السيارة فيرى طفلًا صغيرًا يغالب شعوره بالنوم أثناء وقوفه في "البسطة"، مشهد معتاد في شوارع مدن تركيا لأطفالٍ مهجرين -رغمًا عنهم- وعوائلهم من أثار القصف الممنهج في سوريا. يكاد يكون الأمر غير ممكن لتجنب مشاهدة هذا يوميًا فيعلوا صوت صديقه فجأة ليحدثه عن حفلة الأمس التي تخلف هو عنها.
 

تُصدر الأوامر فيهرع زملاؤه إلى دواليب معدات فض الشغب للتأهب لاحتمالية التعامل مع مظاهرة مفاجأة أمام سفارة أحد البلدان المشاركة في الحرب داخل سوريا، يظهر الأمر غير منطقيًا في مجمله ويتوغل صمته حديث زميل معه في العمل عن مدى الازعاج الذي يسببه له هؤلاء السوريون فيتأفف الشاب ويخرج مندفعًا متعللًا باستنشاق بعض الهواء.
 

يهنئه صديقه على الترقية والعمل حارسًا خاصًا لبعض الشخصيات المهمة في الدولة، ومراكز اتخاذ القرار فيبتسم ويخبره عن مدى سعادته بهذا العمل وأنه يراه تقدمًا في مسيرته وتحركًا نحو سقف طموحه فيصدر صديقه بعض النكات وأن الطريق نحو الزواج اقترب له، فيضحك. يرافقهم وهم يتحدثون عن المشاريع المزعم تنفيذها ومحاولة الانقلاب اللعينة التي كانت ستغير مسارهم والتحالفات الضرورية للتعامل مع الحرب في الدولة المجاورة للحدود، فحلفائهم يشاركون بشكلٍ أو بآخر في هذه العملية وهم يحاولون قدر المستطاع الخروج من الأمر بأقل خسائر والتعامل ببراغماتية تناسب الموقف.
 

تقصف روسيا في كل سوريا بدعوى محاربة الإرهاب فتقتل أضعاف وأضعاف ما يقتل الإرهاب هناك، لا يراه منطقيًا، هي تقصف كما يفعل حليفها في دمشق، تقصف ليرفع من يُقصفوا راية الاستسلام وإن كانوا لا يُقاتلون فيجب دفعهم دفعًا نحو حضن الوطن حفاظًا على مصالحهم بالطبع. تُقصف حلب فيُقتل العشرات يوميًا قد تظن أنك علقت في يومٍ ما في حلقة مغلقة، فالأخبار مكرره والأحداث قد تكون تشابهت عليك. يرى مشاهد الأشلاء فيجزع قليلًا، يظن أنها تشابهت عليه فيغضب. اليوم هدنة قُتل مائة شخص، بالأمس قتال قُتل ثلاثين شخص.. ما هذا الجنون؟

يرتدي "مولود" ملابسًا رسمية للاحتفال، ينظر في المرآة ولا يلاحظ كم يبدوا أنيقًا حقًا! يتحرك تجاه الطاولة حيث التلفاز وصوت المراسل ينقل مسار عمليات التهجير ومدى تعطلها. سقطت المدينة وسقطت أرواح أهلها معها، يتناول زجاجة الماء ويشرب كوبًا، لم يرو ظمئه يرتبك قليلًا، يتحسس جانبه فيجده في مكانه فيطمئن.
 

يصرخ الشاب: "نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد.."، "لا تنسوا حلب.. لا تنسوا سوريا"، "لن يمر الظلم دون عقاب"؛ فكأنما حلب أطلقت الرصاص على السفير الروسي فأردته قتيلًا.

هل كان يحب الفن واللوحات الفنية؟ -قد يتساءل البعض- في هذه اللحظة قد لا يدري، يُظهر تصريحه الأمني لحراس المعرض فيُسمح له بالمرور، يدخل فيمر بمصور صحفي يلتقط صورًا لهذه اللوحات ليحتفظ بها قبلما يبدأ في تصوير الحدث الذي أرسلته مؤسسة عمله ليغطيه. يسير "ألطنطاش" -كما يُنطق بالعربية- في ثقة ووجهه تعتليه نظرات جامدة ثم يتوقف في مكانه، يثبت قدمه به، هو يعلم أنه هاهنا سيُحدث شيئًا ما، قد يؤثر وقد لا يغير شيئًا ولكن حتمًا لن يمر في صمت.

يقف شخصٌ تظهر عليه الحنكة والكل يتطلع له ولحديثه، يبدأ بالحديث، ومازالت قدم أحدهم ثابتة ونظرات الغضب والثأر تتوغل من جسده نحو الأرض تساعده على التشبث بها. يفقد تركيزه للحظه يتذكر أشلاء الأطفال فيعود تركيزه لذروته يتحول للغضب، يسحب سلاحه ويطلق الرصاص نحو الرجل فيتهاوى جسده سريعًا وروحه تأبى الخروج أو لا تستطيع.

يصرخ الشاب: "نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد.."؛ مقولة تراثية في التاريخ الإسلامي، "لن أخرج من هنا إلا ميتًا"، "لا تنسوا حلب.. لا تنسوا سوريا"، "لن يمر الظلم دون عقاب"؛ فكأنما حلب أطلقت الرصاص على السفير الروسي فأردته قتيلًا، وكأنما الثأر الذي تركه الشاب يتسرب إلى الأرض يتشبث بروح المغدور حتى لا تغادر سريعًا.

يعود للتساؤل مجددًا من خلف شاشة الكاميرا وهو يتأمل في الصور التي التقطها بعد أن سمع الشرطة تقتله، هل كان من الممكن أن يكون ما حدث أكثر سيريالة؟ لا يدري ولكن حتمًا في هذه الليلة ومن هذه اللحظة -بل من لحظة سقوط حلب- وفي هذا المكان تحديدًا أصنافٌ مختلفة من الفنون المتوارية!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.