شعار قسم مدونات

الفتاة التي ولدت كبيرة

blogs - woman

هل كان الله مطلع على ساحتي، وأنا أعود منتصرًا بلا رأس، ولا قدم، ولا ساعدين. أجرجر وجعي كسفينة مبتورة الشراع وقد رست على صف من الخيبة، سفينة مثقوبة بالحنين بلا منتصف، أعود كمن قتلته الفلسفة فلم يصل بعد كل هذه المحاربة والسعي الجهد، فأنت لا تجد حلمك ولا حتى نفسك؛ هذه هواجسنا جميعًا فأنت عند ابتعادك عن مرامك معتقدًا حقًا أنه لا جهد يجدي، ولا حركة تشفع، الغلاء يبتلع كل شيء، والظلم أيضًا، تقترب من أن تكونَ قديسًا.
 

فلا يعجبك الظلم ولا أنت تستطيع مقاومته، الظلم ذلك الكيان الأسود الذي ما نثر على أرض إلا وأحرقها، وما نبت في عقل إلا وأهلكه وحجرَه، سرطان مستفحل في قلوب البشر، يهيئ لهم أنهم أفضل الناس، وأعظم الخلق، يخول لهم أن الكون هذا ملكهم هم فقط. ربما بسبب لونهم، أو جنسهم أو حتى نوعهم، يجبرك هذا القاسي على التيه، والتساؤل، وأحيانًا يقودك إلى الكفر من يدك.
 

نساء هذا الجيل قويات، وحاسمات، وقد ولدن كبيرات بما يكفي للعيش مع الأوغاد، ويستطعن إن أردن أن يبنوا عالمًا جديدًا، ولينهر هذا العالم القديم كما يشاء.

تهرب من غرفتك "صومعتك" إلى مكان أوسع فلا شيء ينتظرك سوى الشارع الغبى رمادي الجبهة الذي يتحول فجأة إلى سوق يرف بالباعة والفقراء والنساء والعنيدات، يصدمك سعي الناس وعلمهم يقينًا أنهم ربما يخيب سعيهم وربما يصيب، أما النساء فإنهن يسعين بجهد جهيد، يضمدن الروح، يلملمن الخيبات، ينظفن الساحات من بقايا الفقر والقهر، يعتقدن أنهم قائدات مجاهدات وهن ربما كذلك فعلا، لكن الأكيد أنهن أمهات مكسورات.
 

على كل حال، النهار يبخر أرق الليل، ويبتلع نور الشمس أسى التفكير ولو مؤقتًا، يا سيدي.. إصرار النساء على البناء والمقاومة يشعرك أن نزول حواء إلى الدنيا درس عظيم وأنها نزلت هنا بمحض إرادتها، أو مجبرَة هذا لا يهم، المهم أنها تسعى، بنت النساء ألمانيا، وسيبني النساء سوريا، وربما يبني النساء العالم بعد أن ينهار لأي سبب..
 

فكل حركة شعبية -في وجهة نظري- تفجرها امرأة، هن من يشعرن بغلاء الأسعار أولًا، وهن من يبادرنَّ بتخزين الطعام أولاً، وهن من يقُدنَّ الحرب إذا لزم الأمر أولًا ..كل واحدة منهن تحمل سيفًا داخليًا لا شيء يثنيها عن مسعاها، كأنهن خلقن من ضلع إسمنتي، يجبرنني دائمًا على التصريح بأن النساء هنا هن من يحيين أنفسهن وهن ومن يقتلن، كل تلك المهارة والتركيز ينسف فعلًا بكلمة واحدة من فاشلة أو حمقاء، أو أحمق.
 

أستشعر دائمًا أن النساء ثروة لا يجب أن تدفن، فهن يفكرنَّ أسرع، وينفدن أسرع، لذا فهن الأخطر. لماذا لا يعد ذلك دليلًا على أن من أصرت على نزول إلى الأرض هي حواء؟، تنبش عن الشقاء والجد "بسن إبرة" -كما نقول في مصر-ينهبن الأرض نهبًا لأجل رغيف خبز، لأجل أن يحييّن ليوم إضافي، ويتحولن أحيانًا لأجل من يُحببنَّ إلى كاسرات.
 

يتفجر كل ذلك داخلي وأنا أستمع إلى رفيقتي، حين أتت شاحبة اللون، غائمة النظرات، حركتها سريعة ومشوشة و قد عهدتها رقيقة هادئة مشرقة، ألححت عليها أن تقص لي ما حدث إن كان هناك خطب ما، واستجابت مصرحًة:

"بالأمس في متنصف الليل، وقد هبطت من مسكني على أثر صراخ جرس شقتنا العلوية، بعد أن رأينا رجلين عاديين يسألان عن أخي، رُجفت أمي، وأصررت على الهبوط معها -وكانت رافضة تمامًا- فإذا بأحدهم يبادرُ إلى سؤال أمي عن أحوالنا ملمحًا أنه يريد أن يعرف أين أخي، وعندما وقع الخوف في قلب أمي، أخذ يطمئنها بكلام أعلم أنه كذب، وعندما تدخلت وسألته ماذا تريد؟ فرفع هاتفه مخاطبًا أحد رؤسائه، كأنه يهددني، وأنهى المكالمة معه بوعد بأن يأتي غدًا لأخذ المعلومات والأوراق اللازم، أمتقع وجه أمي، وتدخلت صارخة بأننا لانعرف شيء ولا تأتي هنا مرة أخري، وكدت أصك الباب في وجه، تخيلي نهرتني أمي معتقدًة أن ذلك ربما يسيء إلى سمعتي!".
 

على كل حال، نساء هذا الجيل قويات، وحاسمات، وقد ولدنا كبيرات بما يكفي للعيش مع الأوغاد، ويستطعن إن أردن أن يبنوا عالمًا جديدًا، ولينهر هذا العالم القديم كما يشاء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.