شعار قسم مدونات

الأكثريّة (3)

blogs - Revolution

في الجزء الثاني من هذه التدوينات أشرت إلى دور الإحصاء في تأطير وتعزيز الوعي بـ الأكثريّة/الأقليّة، وبالتالي فهم أنّ هذا الوعي وعيّ سياسيّ أصيل سابق لتطوّر الاحصاء، وسابق بالضرورة من حيث وجوده لهياكل ووظائف الحديث. وأتابع هنا إيراد جملة من الأفكار حول هذا الموضوع.

 

(1)

تشكل الديمقراطيّة في نهاية الأمر نظامًا سياسيًّا هو نظام حكم الأغلبيّة التي تمثل الأكثريّة التي تواضعت أو تواطأت أو تفاوضت على مبادئ هذا النظام السياسيّ. وفي هذا السياق، يكون انتاج الأقليّات تحصيل حاصل أيضًا، مع التمييز فيه بين الأقليّة المتبدلة (السياسيّة الصافية) والتي تنتجها التحالفات أو التغيّرات السياسيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة، وبين الأقليّات (غير السياسيّة أو السياسيّة غير الصافية) شبه الثابتة، شبه المعزولة، أو المعزولة والمهملة والمضطهدة، والتي هي محصلة تغايرات ثقافيّة أو إثنيّة سابقة ذات طبيعة جوهريّة أو ماهويّة، أو اقتصاديّة اجتماعيّة متداخلة مع هذه الأولى.

 

ويميل الأمر عادة وفق التنظيرات المطروقة بوصفها حميدة عبر كونها معقلنة أو معلمنة، إلى التركيز على أكثريّة سياسيّة مقابل أقليّة سياسيّة، لنفي أو عزل الماهويّة التي يشار لها بسلبية عادة، ولكن الحال كما أراه لا يغيّر في الواقع كثيرًا، لأنّ عدم نعت هذه الأقليّة أو تلك بأنّها مسلمة أو عربيّة أو لاتينو أو يهوديّة، بل التوّقف على معاملتها كأقليّة سياسيّة كبنية ضمن بنيّة الأكثريّة الديمقراطيّة التي تَنتج عنها الأغلبيّات الموسميّة التي تصل إلى الحكم، يعني أنّ هذه "الأقليّة السياسيّة" يجري مطالبتها دومًا بإبداء المرونة للاندماج عبر التخلص من أثقال هويّتها وثقافتها للتواؤم أو الانصهار مع الأكثريّة.

 

والأكثريّة هنا أمّة سياسيّة لها دولة ولها هويّة نافية للدين ظاهرًا بمعناه الموجب الفاعل، ولكنّ لها وعيًا بذاتها بأنّها مسيحيّة أو غير مسلمة مثلًا، ويتمّثل هذا الوعي في حشد من التقاليد والعادات والتخيّلات حول السياسيّ وحول الاجتماعيّ وحول الآخر يمكن قراءته على سبيل المثال في الروزنامة الرسميّة.

 

غير أنّ وضع هذه الأقليّة في هذا الموضع يعني أنّه لن يتاح لها أنْ تكون يومًا جزءًا من أيّ أكثريّة ومن أيّ أغلبيّة حتى مع تعريفها كأقليّة سياسيّة، هذا مع خسرانها القسريّ والإراديّ لهويّتها التي تعتز بها، عبر فرض "قوانين الدمج". فحيث أنّ العمليّة هنا لم تفد كثيرًا في معالجة نزعة الماهويّة، لكن الأمر يفضي إلى خلق "ماهويّة سياسيّة" أو قناع للـ"الماهويّة" لا أكثر ولا أقل، يطمس هويّة الأفراد والمجموعات، فلا يكون لها القدرة على تشكيل أي أكثرية بوصفها هذا الوصف، ما يعني بالمقابل صفة أصيلة لـ"عدم تحمّل" للآخر كما هو، ولا كما هو يصير عليه ما بقي آخرًا وفق تعريف ما.

 

(2)

يلزمنا توضيح ما سبق لتفنيد الادعاء المرتدي عادة رداءً أخلاقويًّا حول ما يخص معالجة المسألة الطائفيّة عندنا، وإنكار هذا الادعاء للمحاججة القائلة بأنّ احترام هويّة وثقافة وذوق أكثريّة مسلمة، عربيّة سنيّة، في بلدان فيها هذه الاكثريّة، وهي أكثريّة لم تعد فقط ضربًا من الجماعة المتوّهمة، بل المُحصاة كذلك؛ هو المبدأ الذي لا بد منه لبناء أوّل اجماع حول نظام سياسيّ مستقّر، ديمقراطيًّا كان أم غير ذلك، وقول هذا الادعاء بأنّ الديمقراطيّ تحديدًا لا يستقيم وفق تحدد أكثريّة قبْليّ بهذا المعنى.

 

تشير الدراسات الاجتماعيّة والتي تتعلق بمكنزمات المجموعة المؤتلفة إلى أنّه في نطاق تغيّرات أصغريّة أو طفيفة فإنّ زيادة الأقليّات سوف يزيد من فرصة تعزيز التواصل بين المجموعات، ويقود إلى إنقاص مستوى التهديد المحسوس نظرًا لتنامي حجم المجموعة المختلفة

وهذا الإنكار يأخذ كما قلت شكلًا أخلاقيًّا جوهريًّا، وهيئة معلمنة معقلة، حيث يُعتبر بأنّ الامر يجب أن يمضي فقط وحصرًا على خلفيّة سياسيّة، وكأنّ السياسيّ يهبط من السماء، بمعنى تشكل أكثريّات سياسيّة وأقليًّات سياسيّة، ومنهما تصعد وتهبط أغلبيّة حاكمة موسميّة. والأمر عند أهل هذا الرأي، الذي لا يخلو عمومًا ولا يخلو عند كثيرين من مزاودة وادعاء؛ الأمر عندهم النظر -دون وعي ربّما- إلى النهايات التي صارت إليها الدولة الغربيّة والديمقراطيّة الغربيّة، وإلى الظواهر والطبقة الأولى تحتها، ومحاولة سحب ذلك بشكل جاهز على الحالات المختلفة عندنا، عبر تخيل عمليّات علمنة تقوم باتجاه واحد، وتقوم بدون إشكاليات، أي تصوّر حلول نظيفة ورقيّة، كما لو أنّها عقيدة خلاص،  أي، يَفترض أنّ قبول الناس النسبيّ أو المطلق بعلمنة ودمقرطة ما، سوف يكوّن أكثريّة، ويحلّ الصراعات، بما فيها المسألة الطائفيّة.

 

مثل هذه النظرة، لا تقتطع فقط كلّ مقدّمات الموديل الغربيّ، وكلّ كوامنة وجذوره العميقة وطبقاته الغائرة، وإنّما تنفصل عن شروط وظروف الصراع في حالتنا، عبر اعتبارها إمّا مفتعلة من الخارج على نحو تام أو قرب تام، أو أنّ منطقها الداخليّ منطق غير عقلانيّ بالمرّة -غرائزيّ-  ويحتاج إلى جرعات عقلنة وتنوير عالية وهجوميّة. وهذا كلّه ليس إشكاليّ في حدّ ذاته، الإشكاليّ هو نتيجته التي تقطع أي طريق لبناء أكثريّة سياسيّة -أكثريّة لا أغلبيّة-، وكما أعاين واسمع، تثير شهيّة الأقلويّة والطائفويّة من جهة، وتبنيّ مقاربات ثقافويّة معاديّة ومؤذية للذات، ومقوّضة لها تقطع الطريق على التغيير والمقاومة والعمل.

 

لنقل مثلًا، إنّ ارتدادات صعود اليمين المتطرف واليمين الشعبوي مؤشّرٌ على ما أقول، وهو صعود تزامن مع وصول نسبة المساهمة في "العمليّة الديمقراطيّة" إلى أدنى مستوياتها ما يبرر الخوف على الديمقراطيّة عينها؛ فهذه الارتدادات التي أطلقتها موجات هجرة "مسلمين" كبيرة، ليست اهميّتها فقط أنّها كشفت -للبعض على الأقلّ- حجم ادعاء اللبراليّة الغربيّة، أو قل، سخافة الادعاء حول وجود ثقافة أو اخلاق ديمقراطيّة-ليبراليّة تتمثل بالتحمل الجيّد للآخر، المختلف أو المؤتلف، في طبقات وفئات واسعة من مجتمعات بعينها، تجعلها محصّنة ومنيعة ضد النكوص. وإنّما تكمن أهميّتها في إطلاق – كونها عاملًا مطلقًا فقط- نقاش داخليّ عميق حول الهويّة القبْليّة، الهويّة القاعديّة، التي تكوّن الأكثريّة، الأكثريّة الديمقراطيّة، وتكوّن الهويّة السائدة، وليس الأغلبيّة فقط، والتي يعني الانقسام حولها تهديد مبادئ ليبراليّة-ديمقراطيّة تهديدًا خطيرًا.  قل، إنّه يكشف أن كلّ السياسة أو كلّ السياسات هي "سياسات هويّة" في العمق، بمعنى أنّ مسألة الهويّة بمكوّناتها المتخيّلة والمتعيّنة، الماهويّة والمتغيّرة، لا تزال تقع في صميم السياسيّ وفي صميم الدولتيّ، وتجاوزها المُطلق المفترض ليس هو الحلّ، لأنّه ليس ممكنًا، ولم يكن مقدمّة صرفة في حالة الموديل المشتهى.

 

(3)

إلى ذلك، تشير الدراسات الاجتماعيّة والتي تتعلق بمكنزمات المجموعة المؤتلفة وما بين المجموعات والمجموعة المختلفة في ردّ وتصرّف أعضائها حيال محدديّ الأكثريّة والأقليّة؛ تشير إلى أنّه في نطاق تغيّرات أصغريّة أو طفيفة فإنّ زيادة الأقليّات، المهاجرة في سياق الدراسات المشار إليها، سوف يزيد من فرصة تعزيز التواصل بين المجموعات، ويقود إلى إنقاص مستوى التهديد المحسوس نظرًا لتنامي حجم المجموعة المختلفة، وبالتالي تحسّن المواقف حيال هذه المجموعة.

 

بينما تدفع التغيّرات واسعة النطاق والضخمة عبر نمو الأقليّات (المجموعات المختلفة)، عددًا أو مواقعًا، بشكل حاد أكثر من المزمن، إلى تنامي مستوى التهديد المحسوس، وبالتالي المواقف المناهضة للمختلف، ويُخمّن أنّ السبب هو كون الحالة الأخيرة محرضًّا لمواقف ودعايات سياسيّة تفضيليّة أو غير حميدة، مبدئيّة أو انتهازيّة، تستهدف المختلف، وليس نمو حجم المختلف بحدّ ذاته أو تهديده الفعليّ لمواقع ومصادر الأكثريّ هنا. وفي مجمل هذه الدراسات تمّ رصد علاقات إيجابيّة بين تنامي حجم المجموعة المختلفة الفعليّ وبين تفاقم الحجم المحسوس، والذي بدوره يعزز من أثر التهديد المحسوس -هنا تحديدًا لمواقع المجموعة الأكثريّة-، وهذا الأخير يغذّي المواقف السلبيّة ضد المجموعات المختلفة. أي أننا بكل الأحوال نتحدث بطريقة ما عن "عتبة التحمّل".

 

والجدير بالذكر في سياق كلامي. هو أنّ هذه النتائج -والتي في حقيقة الأمر تحتاج لمراجعات منهجيّة للقبول بها- ليست منفصلة عن تخيّلات صلبة متعلقة بالهويّة الموروثة والهوية الجمعيّة، أي أنّه لا يتم التعبير عنها بلغة المصالح أو التنافس العارية على المصادر والموارد والمواقع، كما أنّها ليست محصلة صرف أو محصلة حسابيّة لخسارة مجموعة ما مواقعها ومصادرها لصالح مجموعة أخرى قليلة أو مختلفة. وإنّما وبشكل سابق أو لاحق -قل محايث- يعبر عنها بمسائل هوياتيّة تتعلق بمواقع هذه المجموعة الرمزيّة وصفاتها الاعتباريّة وسماتها "الثقافيّة". حيث يمكن الإشارة على سبيل المثال لما يسمى بـ "المثال الأوّل" أو "النمط التقليديّ"، كما في حالة اعتبار البيض في الولايات المتحدّة الأمريكيّة بأنّ "المثال الأوّل" هو "مجموعة البيض".

 

إنّ ما تقدّم يشير إلى مكنزمات محايثة للعلاقات بين المجموعات، بين البشر، يصعب برأيي فصلها عن- أو حصرها على- السياسيّ، بمعنى أنّها تندمج مع السياسيّ كما أشرت، ولكنّها ليست إيّاه وفق تعريف معيّن، وبالتالي يمكن دومًا وبقوّة التشكيك بربط ظهور مشكلات الأقليّة والأكثريّة بنمط محدد وواحد للدولة، دون إسقاط اعتبار تفاضل الأنماط والأمثلة في القدرة على الإختراق والهيكلة. ويمكن أيضا النظر بارتياب إلى كلّ الادعاءات التي تشير إلى تفوّقٍ عوامله ثقافيّة صرف ونشطة – وحكمًا تلك التي تتضمن أحكام قيمة- تعزز أو تثبط صفة التحمّل، سواء صدرت عن "نحن" أم عن "هم"، وسواء أشير إلى أمثلة تاريخية أو راهنة، بمعنى أنّ حقبة ما أفضل من أخرى بالمطلق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.