شعار قسم مدونات

المقاعد الأمامية وسر الأهمية

blogs - مجلس
لماذا جلوس الأشخاص في المقاعد الأمامية يعطيهم انطباع بأنهم أشخاص مهمين؟

قديما وحديثا في المعارك، دائما ما يقف المسؤولون الميدانيون الكبار والقيادات العليا لمراقبة المعركة من بعيد ومن خلف جميع التشكيلات ويفضلون المكان الخلفي كونه أكثر أمانا وأقرب لبر الأمان وأسهل للفرار في حال الهزيمة وعلى النقيض يتقدم الصفوف الأولى المقاتلون والجنود، منهم المغلوب على أمره والذين يتم تجنيدهم عنوة نتيجة قوانين بلادهم ومنهم من يضع شعارات الدفاع عن القضية نصب عينيه قبل المعركة.

 

من دون تخطيط وإدارة صحيحة يفشل العمل، ومن دون العاملين على الأرض لا يوجد عمل، المعادلة واضحة (متساوون في المهام متساوون في الجلوس وفي القيام).

يكونون وجها لوجه مع الموت متدافعين بكل بسالة وإقدام أو تحت شعار مجبر أخاك لا بطل أو قاتل أفضل من مقتول أو إما الشهادة وإما النصر، وبعد أن يحاربوا ويُقتلوا يتناساهم الناس مع الوقت إلا ما ندر منهم، ومن يتبقى منهم سالما يذهب بعد نهاية المعركة للمكان الكبير المغلق للاحتفال إن كانوا منتصرين أو للوقوف على الحيثيات في حالة الهزيمة وعلى الأغلب يكون المكان المقصود بناءً مؤقتاً أو خيمةً كبيرة حسب ظروف المعركة، وإن صادف والتقى أحد هؤلاء المقاتلين الأبطال بالقيادات الميدانية على باب المحفل يربتون على كتفه المثقل بأحمال المعركة ويرددون بعض الكلمات المنتقاة خصيصا لهذه المواقف ويدخلون مع مرافقاتهم وحاشياتهم ومطبليهم ومزمريهم وبعدها يسمحون للمقاتل بالدخول. في المعركة يتسيدون الصف الأخير وفي الاحتفالات لا ينازعهم أحد على الصفوف الأولى أمام الموائد.

 

تعب التخطيط يأتي من القادة وتعب التنفيذ يأتي من العاملين على الأرض

من دون تخطيط وإدارة صحيحة يفشل العمل، ومن دون العاملين على الأرض لا يوجد عمل، المعادلة واضحة (متساوون في المهام متساوون في الجلوس وفي القيام) وفي المؤسسات والشركات والأحزاب والمنظمات ضمن مجتمعاتنا العربية نجد بأن الشخصيات الإدارية دائما ما تُعطى الراتب الأعلى والاحترام الأكثر ويُنظر إليها بنظرة مختلفة من شرائح المجتمع وتكون الحجة بأن هذا الشخص الإداري قد أفنى سنوات طويلة وهو يدرس أما العامل العادي أو الموظف البسيط فلا أهمية له تُذكر كونه لم يتابع دراسته، إذا المقياس هنا هو الدراسة فمن يدرس أكثر تكون مكانته بالمجتمع مرموقة أكثر ومن لا يتابع دراسته تكون قيمته متدنية وهذا مقياس خاطئ لعدة أسباب:

 

الكثير من غير الدارسين يقومون بأعمال مشابهة تماما لما يقوم به الدارسون وفي كثير من الأحيان يتقنونها أكثر. لا يستطيع في معظم الأحيان الدارس من القيام بالأعمال الفنية والتقنية ويقتصر عمله على مهن محددة وفق دراسته، على سبيل المثال لا يستطيع الطبيب أن يقوم بعمل سائق ألية ثقيلة كالجرافات والقاطرات وهذه المهام تحتاج مهارة وخبرة ولا تفيد الكتب في هذه الحالة شيئا واذا ما جئنا لمقارنة حاجة كل منهما للأخر فتأتي على النحو التالي: سائق الألية الثقيلة يحتاج الطبيب ان أصابته وعكة صحية على المستوى الشخصي أو العائلي وعلى الجهة الأخرى يكون الطبيب بحاجة سائق الألية في عدة حالات كنقل المعدات الطبية إلى عيادته وكذلك نقل مواد البناء وحفر الاساسات لبيته أو عيادته وهو ما يحتاج إلى دقة فائقة بالعمل.
 

كما أحتاجك تحتاجني والقيمة ليست بالدراسة بل بأداء العمل بالطرق الصحيحة.ولكن الفرق الوحيد إن أُقيمت حفلة وصادف وجود الطرفين فيها سيجلس الطبيب في الصف الأمامي بينما سيجلس سائق الألية في الصفوف الخلفية!!!

 

في رحلات الصيد أفضل رمية هي الرمية الأولى إن كانت الرمية سهاماً أو رصاصاً حياً، فللوصول إلى الفريسة يحتاج الصيادون عناء ووقتاً طويلاً وهم يبحثون عن فريستهم.

علاقة حب حميمة تجمع بين المقاعد الأمامية والأشخاص وهي علاقة غريبة تحتم عليَّ أن أتوسع في دراستها ومع البحث المطول لم أجد مرجعا واضحا لمثل هذه الحالات فقررت أن أفند هذه العلاقة وفق فهمي لعلم النفس وتاريخ سلوك الأفراد. قديما كانت الفرمانات المقروءة بصوت المنادي والتي تعتبر وظيفة إعلامية وأقدم أشكال توصيل الخبر، حيث كانت وسيلة لإيصال الرسائل والأوامر من القصور إلى الساحات والتجمعات العامة، فما أن يصيح المنادي حتى تتجمع الناس لسماع الرسالة وبطبيعة الحال يحتاج الأشخاص أن يقتربوا من المنادي كي يسمعوا أكثر ويكون مصدرهم للخبر من فمه مباشرة وهو يجعلهم بدوره ناقلين للخبر بشكل موثوق أكثر ممن كان في الخلف والذي قد تصله الرسالة المراد نقلها فيها بعض الخلل وبطبيعة الحال الكثير من التشويش نتيجة التجمع الكبير، فكانت الناس تتسابق في مثل هذه الحالات لتكون في المقدمة، هذا يعني بأن أول مقومات هذه العلاقة هي الحاجة للمعلومة والوضوح في تلقيها.

 

الصيد وعلاقته بالمقاعد الامامية

في رحلات الصيد أفضل رمية هي الرمية الأولى إن كانت الرمية سهاماً أو رصاصاً حياً، فللوصول إلى الفريسة يحتاج الصيادون عناء ووقتاً طويلاً وهم يبحثون عن فريستهم وعند إطلاق أول رمية ستشعر جميع الفرائس المتواجدة في المكان وتهرب وهو ما يعني زيادة في التعب على من لم يرمي أو يصطاد وعناء بحث جديد، لذلك كان الصيادون يتسابقون ليكونوا في الصفوف الأمامية وهو ما ترك انطباع في اللاشعور بضرورة التواجد في الصفوف الأمامية. إذن ثاني مقومات هذه العلاقة القضاء على الخوف المتمثل في فقدان الهدف.

 

الطعام وعلاقته بالمقاعد الأمامية

عندما كان الانسان يعتمد على الصيد في تأمين طعامه كان أول من يحصل على الفريسة يختار أفضل وألذ ما فيها من لحم ويأتي الذي بعده ويحصل على ما هو اقل لذة إلى حد ما ويستمر الحال على هذا المنوال ومن يصل متأخرا يحصل على البقايا وقد لا تكفي جوعه فيشعر بالقهر ويعلم جيدا أهمية تواجده في البداية أو الصفوف المتقدمة حتى يحصل على اللذيذ والمشبع. فثالث مقومات هذه العلاقة اشباع الجوع.الكثير من المقومات تحتاج لسرد طويل، وفي هذا المقال سأكتفي بهذا الجزء البسيط منها، وهي مقومات تحتاج إلى قوة ومزاحمة وتفوق على الأخرين.

 

وفي الخلاصة إن كان قديما يضطر الانسان ليكون في الصفوف الأولى ليستطيع متابعة حياته وسد احتياجاته فما هو السبب الذي يضطره في وقتنا هذا للقتال على الصفوف الأمامية؟ ورغم أنه في كثير من الأحيان لا يجب وجوده في تلك الصفوف، ويجب أن يفسح المجال لمن هو بحاجة أن يجلس في المقدمة، وكما قال الشاعر الكبير نزار قباني: إن أغلب من يجلسون في الصفوف الأمامية أثناء حفلاتي الشعرية لا يفقهون في الشعر شيئا بينما جمهوري الحقيقي هو من يجلس في الخلف.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.