شعار قسم مدونات

اغتيال السفير الروسي.. احتقان أم انفراج بين البلدين؟

blogs - putin ardougan

اغتال "ألتن تاش" السفير الروسي في أنقرة "كارلوف" برصاصات غادرة لكن في المقابل، هل ستعرقل رصاصاته إعادة الحياة والروح للعلاقات التركية الروسية؟ أم أنها ستؤدي إلى مزيدٍ من الانتعاش في العلاقات بين الطرفين بعدما فتُرتْ قليلًا خلال الأحداث الأخيرة في مدينة حلب؟ هذا هو السؤال المحوري والإعلامي الأبرز في هذه الأيام.

للإجابة على السؤال يجب الانطلاق من الوقائع السياسية التركية الداخلية والخارجية، ومن رؤى ساستها للتطورات الأخيرة خصوصًا، أن الكرة أصبحت في المرمى التركي بعد اغتيال السفير الروسي بسبب الضغوطات الدولية التي تسببها حادثة كهذه تندرج في اطار الأعراف الدبلوماسية والقوانين الدولية.

أما من الجانب الروسي فيبدو أنه في وضعية أكثر أريحية، فهو منتشٍ بـ"انتصار" حلفائه في حلب، كما أنه يمتلك أوراقًا سياسية عديدة شرقًا وغربًا يستطيع استعمالها وقت ما شاء، خصوصًا أن علاقاته مع الدول الغربية بجبهتيها الأمريكية والأوروبية مرشحة للانفراج قريبًا بعد نجاح ترامب في انتخابات الولايات المتحدة، وصعود مختلف التيارات اليمينية بقوة في أوروبا، وهي الداعمة في مجملها للممارسات والتوجهات الروسية في السياسات الدولية.

يبدو أن العقل الإستراتيجي التركي يحاول إيجاد مزيدٍ من المنافذ الجديدة للتخلص من الاحتقان الذي أصاب سياسته الخارجية وعلاقاته الدولية.

ويبدو أن هذا الارتياح الروسي انعكس ايجابًا على الطريقة التي واجهت بها موسكو اغتيال سفيرها في أنقرة حيث جاء ردها متقبلًا، ومتوافقًا كليًا مع الرؤية والتفسيرات التركية للعملية. ودعا معظم المسؤولين الروس في تصريحاتهم الى مزيدٍ من التقارب مع الأتراك، ووضعوا العملية في اطار محاولات تشويش العلاقات المتميزة المُنتعشة بين الطرفين مؤخرًا.

وهذا تأكيد على أن الجانب الروسي يبدو أكثر تفهمًا لظروف الحادثة هذه المرة، وإثباتًا منه على عدم رغبته في خسارة علاقاته مع تركيا كما حدث سابقًا خلال حادثة إسقاط الطائرة الروسية.

أما الجانب التركي -الذي يتمتع عادةً بمساحاتٍ وافرةٍ من التحركات المُريحة نسبةً الى موقعه الجيوسياسي البارز متوسطًا العالمين الشرقي والغربي-  فيبدو أنه في وضع لا يُحسد عليه مؤخرًا بعد انحسار نفوذه في سوريا، وتقلص ثقته ووتيرة علاقاته مع الغرب ممثلًا بالاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، وتدهورها قليلًا مع بعض دول المحور الآسيوي كروسيا والصين وإيران بسبب سوء التفاهم السياسي الذي حصل خلال الأحداث الأخيرة في حلب وفي الشرق الأوسط عمومًا.

ولذلك يبدو أن العقل الإستراتيجي التركي يحاول إيجاد مزيدٍ من المنافذ الجديدة للتخلص من الاحتقان الذي أصاب سياسته الخارجية وعلاقاته الدولية، يقابلها تغيرٍ داخليٍ ومحليٍ حادٍ في البنية السياسية-الاجتماعية بعد نمو تيارين جديدين مؤخرًا في المؤسسات السياسية وفي الأوساط الاجتماعية التركية أصبحا يسيطران على مختلف التوجهات الشعبية والادارية أحدهما علني والأخر باطني:

– التيار العلني هو التيار الأوروآسيوي الذي أصبح يُشكل ما يمكن تسميته بلوبي قوي داخل مختلف أجهزة الدولة التركية ويظهر في الإعلام، والبرلمان ومختلف المؤسسات التركية. ويبدو أنه سيمثل التوجهات الجديدة في السياسات الخارجية التركية خصوصًا بعد فُقدان الثقة بالغرب ومؤسساته.

وهذا التيار يتمثل أساسًا في أجزاءٍ واسعةٍ داخل نُخب حزب التنمية والعدالة والحزب الجمهوري (الأتاتوركيون) وكذلك نتابع تنظيراته ونلحظ خُيوطه بقوةٍ في ممارسات السياسي الاشتراكي المخضرم "دوجو بيرينجيك". ويُنادي أتباع التيار الأوروآسيوي في تركيا بقوةٍ للتحالف مع الشرق مُتمثلًا بروسيا وإيران وجمهوريات آسيا الوسطى ومنظمة شانغهاي.

– في المقابل هناك صعود باطني مُخيف يتغلغل في أجهزة الدولة والأحزاب بمختلف توجهاتها ومشاربها لأتباع فتح الله غولن (حركة الخدمة أو "حزمت") ومن هذا التيار تخرج "التن تاش" قاتل السفير الروسي، والضباط الذين دبروا محاولة الانقلاب على أردوغان شهر تموز/يوليو الماضي.

وقبلهم تفرخ من هذه الجماعة ضباط سلاح الجو التركي ،الذي يعتبر أكثر الفروع الموالية للولايات المتحدة في الجيش التركي- الذين أسقطوا الطائرة الحربية الروسية- والاستنتاج الأبرز والملاحظ على معظم العلميات التي يقوم بها أتباع غولن أنها تأتي في إطار زعزعة العلاقات التركية مع روسيا، ويتم تصنيفهم كأتباع للتوجهات الغربية (الأطلسية والأوروبية) في تركيا لرفضهم أي تقارب بين تركيا ومحيطها الآسيوي أو هكذا على الأقل يتم تصويرهم وتسويقهم سياسيًا وإعلاميًا.

وتأتي إقامة زعيمهم فتح الله غولن في الولايات المتحدة، وتواصله مع مختلف المؤسسات والتيارات الغربية والترحيب الكبير الذي يلقاه منهم، كدلائل قوية تدعم وتؤكد استنتاجات القادة والساسة الأتراك بوجود تقارب ما بين جماعة غولن والغرب.

أما الملاحظة الأبرز في إطار هذا الصراع الجديد في تركيا، هي أن أردوغان اختار ثوبه كرجلٍ مصلحٍ لأجهزة الدولة من أيادي غولن ومجموعاته العميلة للغرب، وذلك منذ محاولاتها الفاشلة للانقلاب عليه، وسعيها المتواصل لإضعاف علاقاته بروسيا والمحور الأوروآسيوي.

ويُمكن تفسير هذه التحركات الأخيرة لأردوغان على أنها تسويقًا لسياساته الأوروآسيوية الجديدة التي يريد من خلالها إعادة التلاحم مع الدول والشعوب التركية الآسيوية وغيرها، وهي سياسة يمكن اعتبارها ناجحة عمومًا حيث أنها تلامس خارجًا امتدادات تركيا الطبيعية مع جمهوريات آسيا الوسطى وروسيا.

كما أنها تتحالف داخلًا مع رؤى بعض القوى الاشتراكية والقومية والدينية والكمالية المُعادية للغرب منذ زمنٍ طويلٍ، وهذا سيشكل تكتلًا داخليًا قويًا في مواجهة مجموعات غولن، كما سيلتقي هذا التوجه الداخلي التركي المعادي للغرب مع توجهات مجموعات عديدة من النُخب الروسية المؤثرة سياسيًا وفكريًا.

إنّ تصاعد التيارين الأوروآسيوي والغولني وتغلغلهما في أروقة الدولة والمجتمع أحدهما بصورةٍ علنيةٍ والآخر بصورة باطنية، وتصارعهم الشرس في الدولة العميقة، قد يجرُّ الداخل التركي إلى مزيدٍ من الصدامات والفوضى السياسية والاجتماعية، وستدفع هذه الاضطرابات الدولة لتحديد توجهاتها بوضوح.

هناك دلالات واضحة يرسلها الطرفان التركي والروسي على رغبتهما في التقارب مستقبلًا في إطارٍ أورآسيٍ.

وأبرز ما يمكن ملاحظته واستنتاجه من الحوادث المتتالية الأخيرة البارزة التي شهدتها تركيا كاغتيال السفير الروسي، ومحاولة الانقلاب الفاشلة وإسقاط الطائرة الروسية هو أن السلطة الحاكمة بتركيا بقيادة أردوغان قد اختارت توجهاتها راسمةً طريقها بألوانٍ أوروآسيوية واضحة. فالتحركات الأخيرة تأتي في مجملها لتؤكد هذه التوجهات ويمكن استنتاج ذلك من خلال رسائل قادتها لنظرائِهم الروس بعد حادثة مقتل السفير التي جاءت جميعها مُعزية للروس وشاجبة ومُنددة بقوة للعمل.

وترافق ذلك مع قبول الأتراك حضور الاجتماع الثلاثي مع روسيا وإيران الذي نظمته موسكو مؤخرًا، والذي شَهد اتفاقًا ثلاثيًا على مجمل النقاط المطروحة لحلِ الصراع السوري، وكان الطرفان التركي والروسي قد اتفقا قبل ذلك مع الرئيس الكازاخي نزارباييف على عقد اجتماع في أستانة عاصمة كازاخستان حول الأوضاع في سوريا لبحث الحلول سلميًا أي سياسيًا.

ولم يأتِ الاختيار على كازخستان لعقد هذا الاجتماع من فراغٍ بل له دلالاته الواضحة، فهي تضم مزيجًا اجتماعيًا متميزًا يشمل خليطًا عرقيًا ما بين الكازاخ الأتراك ومجموعات من الروس، كما تعتبر إحدى الدول الخمس المؤسسة لمنظمة شانغهاي، بالإضافة إلى كونها تتميز بعلاقاتٍ سياسيةٍ قويةٍ مع الأتراك والروس، ولعبت أدوارًا جدُّ هامة لتقريب وجهات النظر بين البلدين خلال فترات أزمة الطائرة الروسية.

وهذه دلالات واضحة يرسلها الطرفان التركي والروسي على رغبتهما في التقارب مستقبلًا في إطارٍ أورآسيٍ، كما لا يجب إغفال انعكاسات هذه التقاربات التركية الروسية على مختلف الحلفاء العرب للطرفين. وهو ما سيشكل مادةً لموضوعاتٍ أخرى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.