شعار قسم مدونات

لا وحشة في قبر رضوى!

blogs - رضوي عاشور
في ديسمبر تنتهي كل الأحلام.. هكذا تطالعنا أثير عبد الله النشمي في روايتها المشهورة، لكن هل حقاً تنتهي كل الأحلام في ديسمبر؟ لا أعرف إن كان ثمة ارتباط أم لا، لكن ما أعرفه أن حلماً جميلاً انتهى ذات ديسمبر حزين.. اسمه رضوى عاشور.
 

نعم رحلت رضوى.. لكنها لم تمت، ولن تموت.. رضوى، أستاذة الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة، الزوجة الوديعة، والأثيرة عند أصدقائها ومقربيها تفاجأها تلك النتوءة خلف أذنها، تسافر إلى الولايات المتحدة ليخبرها الأطباء -في غير هوادة- أن ورماً سرطانياً خبيثاً تسلل إلى تلك الخلايا، وأن لا أمل في استئصاله!
 

أخرجت رضوى الماضي من أجداثه، وكست عظامه لحماً ثم نفخت فيها الروح.. فانتصب واقفاً حياً يقص تاريخاً طويلاً من الخذلان.. مائة عام من الضياع، من القسوة، من الضعف والسقوط.

ترى ما يصنع الإنسان لو أدرك أن أيامه الباقية في هذه الحياة باتت معدودة؟ لو جاءه ملك الموت ليخبره بانتهاء أجله، وأنه سيمهله يوماً أو بعض يوم؟ تلك اللحظات التي يكون المرء فيها معلقاً بين الحياة والموت، وتخف فيها سطوة الجسد على الروح، وترهف الأذن لغناء قبائل البوشمن الآتية من بعيد.. يوم نموت سيمحو النسيم الرقيق آثار أقدامنا على الرمال، بعد ما يفنى النسيم، ترى من يخبر الأبدية أننا مشينا هاهنا مرة في فجر الزمان؟

 

لكن رضوى قررت أن تخبر الأبدية أنها مشت هاهنا.. أنها كانت هنا، قررت رضوى أنها لن تموت. أرادت أن تكتب عملاً تذكره الأجيال على مدى التاريخ فكانت " ثلاثية غرناطة ".. مائة عام سردتها لحال الإسلام والمسلمين في الأندلس، من خلال أسرة واحدة، أسرة أبى جعفر وسليمة ومريمة.. كأنهم جيرانك أو أحباء قدامى، ستسير معهم في شوارع البيازين، وتتوه بين الصنادقية والقيصرية والسقاطين، وستسكب العبرات علي موت سليمة!

 

أخرجت الماضي من أجداثه، وكست عظامه لحماً ثم نفخت فيها الروح.. فانتصب واقفاً حياً يقص تاريخاً طويلاً من الخذلان.. مائة عام من الضياع، من القسوة، من الضعف والسقوط! ستشعر بالخجل لما وصل إليه حال المسلمين، تسلب ممتلكاتهم عنوة وتحرم عليهم لغتهم وممارسة شعائرهم الدينية، وتنصب لهم المحارق والمشانق.. أي عارِ هذا الذي وصلنا إليه؟
 

ستبقى الأجيال تروى قصة الخلود يا رضوى، ستبقي ذكراك ما بقي طيف يحن إلى ديار المسلمين في الأندلس.

رغم كل المراجع التي قد تقرأها عن الحضارة الإسلامية في الأندلس، إلا أن الثلاثية ستظل حالة فريدة في بابها.. تُعاش ولا تٌقرأ! رضوى.. التي أرادت أن تخلد سيرتها فخلدت -بهذا العمل- سيرة الأدب من بعدها، وتركت لنا -نحن أبناء هذا الجيل- تراثاً نتيه به على من يأتي بعدنا..

 

تٌرى.. أكانت مفارقة من القدر أن تموت رضوى في بداية ديسمبر؟ ألأنها أرادت أن تذكرنا في كل النهايات أن ثمة امرأة استعصت على النهاية؟! أنها صارعت الموت فصرعته، ولم ينل منها إلا ذلك الجسد الضئيل بعد أن عاشت تحمل سلال الأمل وتوزعها على الناس؟ نعم رحلت رضوى.. بعد أن استعلت على مرضها، وتركت للعالمين سر الخلود، ممثلة في صنيعها قول الأمير: فاصنع لنفسك بعد موتك ذكرها.. فالذكر للإنسان عمر ثاني.

 

ستبقى الأجيال تروى قصة الخلود يا رضوى، ستبقي ذكراك ما بقي طيف يحن إلى ديار المسلمين في الأندلس، ما بقي زائر يطوف بجنات العريف وقصر الحمراء، ويمر ليقرأ الفاتحة أمام قبر مريمة.. سيقفون خشعاً أمام محرابك، يهدون الورود لروحك الطاهرة، ويرددون في أمل "لا وحشة في قبر رضوى!".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.