شعار قسم مدونات

هل الغاية تبرر الوسيلة في العمل الصحفي الاستقصائي؟

blogs - jornalist
القاعدة الثابتة في العمل الصحفي الاستقصائي تقول إن المعلومة والهدف الذي يسعى إليه الصحفي عادة ما يكون خفيا ومبهما، ويصعب الوصول والحصول عليه، خصوصا إذا ما ارتبطت بقضايا كبرى كالفساد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، والتي لها تأثير كبير على استقرار المجتمع.

قاعدة أخرى تقول إن من يعمل على إخفاء المعلومة هم أنفسهم المتضررون من كشفها، وهم الذين قد يتعرضون للسجن أو النفي أو العزل من مناصبهم، في حال الكشف عن الحقائق المخفية.

وبناء على القاعدتين السابقتين فإن الصحفي العامل في المجال الاستقصائي عليه الغوص عميقا في رحلته الطويلة نحو كشف المستور وراء القضايا والقصص.

أين هي الدولة من مسؤوليتها تجاه كشف الفساد؟ وهل يحق لأي جهة إعلامية أن تأخذ على عاتقها هذه المهمة في ظل غياب الدولة؟

وهنا تحديداً يبدأ الجدل الذي تتمحور حوله الصحافة الاستقصائية، جدل يدور حول مدى أخلاقية الطرق التي ينتهجها الصحفيون للكشف عن الحقيقة.
في هذا الصدد، يقول الباحث "Greenslade" لطالما احتل هذا الجدل منطقة رمادية من الناحية الأخلاقية والقانونية، وغالباً ما تجاوز الصحفيون حدود الممارسة الأخلاقية خلال سعيهم نحو أي معلومة تعزز تحقيقاتهم، ففي النهاية يصعب على أي صحفي استقصائي تجنب الوقوع في شرك الممارسة غير الأخلاقية للمهنة.

العديد من الصحفيين والباحثين يؤكدون صعوبة إعداد موضوع استقصائي دون انتهاج طرق ملتوية، حتى وإن تعارض ذلك مع أخلاقيات المهنة الصحفية. ويرتكزون في ذلك على المنطق الذي يقول إذا أردت صحافة استقصائية مثالية تمتاز بالكمال الأخلاقي، فقليل جداً هي القصص التي سيتم استقصاؤها.

هم باختصار يصفون أنفسهم كمن يحمل مشعلاً خافتاً يسعى بسرية لأن يضيء غرفة كبيرة مظلمة مليئة بالرفوف والمستندات، والسبب أنهم يتعاملون مع أناس مخادعون.

في العام 2009، بدأت صحيفة الديلي تلغراف نشر سلسلة من التحقيقات حول تورط عدد من أعضاء البرلمان البريطاني بقضايا فساد مالي الصحيفة اعتمدت خلال إعداد التحقيق على طرق ملتوية تتعارض وأخلاقيات المهنة المتعارف عليها، فهي قامت بدفع مبلغ 110 ألف جنيه إسترليني لقاء معلومات حول المشتبهين، مع اتفاق على إخفاء هوية مصدرها الخاص التي حصلت منه على الوثائق القضية انتهت بسجن ثلاثة من أعضاء البرلمان، إلا أنها أثارت في الوقت نفسه تساؤلات حول مدى أخلاقية ومشروعية الطريقة التي حصلت بموجبها على المعلومات. فهل سعت الصحيفة نحو تحقيق مبيعات أعلى، أم أنها تحلت بروح المسؤولية تجاه المجتمع بكشفها للفساد الحكومي، أم أنها سعت نحو الأمرين معاً؟ في هذا المضمار، يقول الباحث "Tryhorn" إن المبالغ المالية التي قامت الصحيفة بدفعها هي من أجل الصالح العام.

بينما يعلق باحث آخر بالقول على الرغم من أن التحقيقات قد أضرت بسمعة النواب الثلاثة، إلا أنها اتصفت بالعدل والمسؤولية، خصوصاً وأنها ناقشت قضية تهم المجتمع، ففي النهاية هؤلاء النواب كانوا ينفقون أموالنا الخاصة على أنفسهم. باحث آخر يقول الطريقة التي انتهجتها الصحيفة للحصول على المعلومات، إضافة إلى قيامها بإخفاء هوية المصدر، يعزز الرأي القائل إنه فقط عبر الطرق الملتوية يمكن أن يتم الكشف عن الفساد.

هذه الآراء المؤيدة لما قامت به الصحيفة تطرح تساؤلاً حقيقياً حول مدى استعداد الصحفيين للالتزام بأخلاقيات المهنة، وإذا ما كان هذا الالتزام ممكناً في جميع القضايا والحالات. وهنا يقول الباحثان "Belsey و Chadwick" نعم على الصحفيين التحلي بالأمانة خلال ممارستهم لعملهم الاستقصائي والإخباري، ولكن لنفترض أن بعض قضايا الفساد لا يمكن كشفها إلا بعد أن يتقمص الصحفي شخصية مزيفة، ويقوم بصفقة ما؟ على الصحفي أن يحترم حقوق الخصوصية، ولكن بعض المعلومات عن شخصية سياسية فاسدة تستحق اختراق هذه الخصوصية، لأن هذه الشخصية الفاسدة غير مؤهلة لأن تحظى بميزة الحق في الخصوصية.

لعله من الأفضل للصحفي اللجوء لبعض الخداع إذا ما ارتبطت القضية بفساد أو جرم يراد له أن يبقى خفياً عن أعين المجتمع.

وبالنظر إلى الرأي الأخير، يتبادر إلى ذهن الإنسان سؤال حول حقيقة ما هو أخلاقي وغير أخلاقي، وهل الالتزام بأخلاق المهنة يُعد تصرفاً صحيحاً في ظل عدم القدرة على كشف فساد سياسي إلا بانتهاج طرق تتعارض مع تلك الأخلاق، وإذا ما كان للصحافة مسؤولية تجاه المجتمع، فهل مبرر للصحفي أن يفعل أي شيء خدمةً لهذه المسؤولية؟ وأين هي الدولة من مسؤوليتها تجاه كشف الفساد؟ وهل يحق لأي جهة إعلامية أن تأخذ على عاتقها هذه المهمة في ظل غياب الدولة؟ يجيب الباحث "Brooke" بالقول لم يُكشف عن فساد النواب الثلاثة عبر القنوات الرسمية الحكومية، فقط من خلال الإعلام تم كشف ذلك. ماذا لو رفضت الصحيفة شراء المعلومات أو حماية مصدرها، هل كان ممكناً كشف هذا الفساد، أم سيظل مجهولاً.

باحث آخر "Belsey" يعلق بالقول: لا يتم الكشف عن تجار المخدرات، أو فساد الساسة، أو احتيال رجال الأعمال إلا من خلال طرق ملتوية. وفي سياق ما حدث مع النواب الثلاثة، فإن إاستخدام هذه الطريقة ملزم أخلاقياً.

أما الباحث "Kieran" فيقول: بعض التصرفات قد تبدو غير أخلاقية في موقف أو قضية ما، ولكن في حالات معينة تبدو مُبررة جداً. فبعض الخداع أو اختراق الخصوصية قد يكون مبرراً شريطة إثبات حالة الشبهة أو الفساد، والذي يحتمل أن يعرض مصالح وحياة الآخرين للخطر في حال تجاهلها.

وأخيراً، يمكن القول إن مهمة الكشف عن قضايا الفساد هي مهمة نبيلة للإعلام، وكما يقول "Belsey" النهاية تبرر الوسيلة، ولعله من الأفضل للصحفي اللجوء لبعض الخداع إذا ما ارتبطت القضية بفساد أو جرم يراد له أن يبقى خفياً عن أعين المجتمع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.