شعار قسم مدونات

من طليطلة إلى حلب

Blogs - Aleppo
بين سقوط طليطلة وما تبعها من سقوط لدويلات الأندلس وسقوط حلب وما قد يتبعها من سقوط لمدن أخرى؛ تلقي أحداث الماضي ظلالها على واقع اليوم، منذرة أن من يتجاهل التاريخ يجازف بتكراره. وكأنهم يكررونه.

في عام 316 هـ أعلن عبد الرحمن الثالث (الناصر) الخلافة الأموية في الأندلس بعد قرنين من امتناع أسلافه من بني أمية عن التسمك بالخلافة احترامًا لوحدة المسلمين، رغم عدم اعترافهم طوال هذا الزمن بالخلافة العباسية، وكان الداعي لهذه الخطوة هو ما أقدم عليه الباطنيون الإسماعيليون من الانفصال بمصر وشمال أفريقيا عن الخلافة العباسية وإعلان الخلافة الفاطمية كندّ لخلافة بني العباس، وهكذا سار الناصر على خطى عبد الرحمن الداخل، فوحّد الأندلس في دولة قوية تحت حكم الخلافة الأموية التي أعاد إحياءها، وقد كان أمام الناصر على الصعيد الخارجي عدوَّان، واحد في الشمال متمثل في النصارى في ممالك ليون وقشتالة ونافار، وكان ما من سبيل لرد اعتداءاتهم سوى اجتياح أراضيهم، ولكن المسلمين فشلوا عبر الزمن في اجتثاث هذا الخطر نهائيًا، فكان كجحر العقرب الذي تخرج منه لتلدغ كلما سنح الظرف ثم تعود.

نجد في واقعنا أن الدول الداعمة للسوريين فهي وإن قدمت المال وساهمت في التسليح، إلا أنها لم تفعل ذلك لتحويل من دعمتهم إلى قوة ضاربة تجاه عدوها وعدوهم.

والعدو الثاني كان الفاطميين الباطنيين في شمال أفريقيا، فاستعمل عبد الرحمن الناصر المال الأموي/الأندلسي، وحول به ولاء البربر في شمال أفريقيا من ولاء للإسماعيليين إلى ولاء للأمويين، فصنع منهم قوة نازلت الفاطميين وحدّت من نفوذهم في شمال أفريقيا وحمى دولته وحمى الوجود السني، ليبقى درعًا يحمي الأندلس.

لكن فترة الوحدة والقوة لم تستمر طويلا وسقطت الخلافة الأموية 422 هـ/1031م، وتشظت الأندلس إلى عدد من الإمارات يماثل عددها اليوم في بلاد العرب (22 امارة) دعيت بدول الطوائف، مارس أمراؤها الكيد والخديعة والعدوان على بعضهم واستقووا بالفرنجي على بعضهم ثم دفعوا الجزية له صاغرين متوددين.

ومن جحر العقرب الذي لم يسعَ المسلمون جديًا لاجتثاثه فيما سلف في شمال الأندلس، خرج ألفونسو ملك قشتالة يحوز الحصون واحدًا تلو واحد من أيدي حكامها العابثين، وكانت باكورة أعماله السيطرة على طليطلة التي حاصرها وأرسل حكامها إلى ممالك الطوائف يستغيثونهم لنجدتهم ونصرتهم، لكن ملوك الطوائف كان لسان حالهم: اللهم حوالينا ولا علينا. فقد خافوا على ممالكهم وعروشهم من أن يغضب ألفونسو فيسلبهم إياها، فتركوا طليطلة تسقط بيد الإفرنجي ظانين أنهم بذلك يحمون أنفسهم، لكنها كانت سنوات قليلة بعدها، حيث إن من لم يسقطه ألفونسو أسقطه ابن تاشفين، فخسروا الدنيا والآخرة، ولكنها بقيت العبرة والأمثولة ودرس التاريخ الذي يتجاهله يجازف بتكراره، وإن كان لا بد من الإسقاط التاريخي على واقعنا اليوم، فإن سوريا هي أندلس الأمس:

إن الخطر الحقيقي الذي هدد وجود المسلمين في الأندلس وكان أهم سبب ساهم في إسقاط الأندلس هو أن من ولي الحرب والسياسة طوال قرون لم ينقل المعركة إلى شمال الأندلس وصولًا إلى الإجهاز على الوجود الاسباني هناك والقضاء عليه تمامًا، وهو عين ما مارسه أمراء الحرب في سوريا وما زالوا في معاركهم العبثية على أراضيهم بدل أن ينقلوا حربهم إلى أرض عدوهم ويجهزوا عليه نهائيًا فيزيلوا بذلك مكمن الخطر الحقيقي ويفقدوا الأطراف الخارجية (الصليبية والمجوسية) أسباب تدخلهم.

 

إن عبد الرحمن الناصر أدرك أن قوة دولته وحمايتها يكون بدرع من قبائل شمال أفريقيا يقاتلون عدوهم وعدوه من الباطنيين فأغدق عليهم الأموال (المساعدات) وسلحهم، بينما نجد في واقعنا أن الدول الداعمة للسوريين فهي وإن قدمت المال وساهمت في التسليح، إلا أنها لم تفعل ذلك لتحويل من دعمتهم إلى قوة ضاربة تجاه عدوها وعدوهم بل لتصفية الحسابات بينها وبين خصومها من ملوك الطوائف المعاصرين وللحروب البينية والهامشية، وتبعًا لما يطلبه الطرف الخارجي (الولايات المتحدة) الذي مثله في الزمن الماضي ألفونسو الذي سعى لإخضاع الجميع وأخذ الجزية من الجميع على طريق تحطيم الجميع والسيطرة على ما بأيديهم، وتوشك اليوم هذه الدول أن تخسر خط دفاعها الأخير عن وجودها خارج أراضيها نتيجة ذلك.

في اللحظات المصيرية يجب أن تكون المواقف أيضًا مصيرية تتناسب مع جلل الخطب، وهي تحتاج جرأة ابن عباد؛ لا ليتنازل عن حكمه وعرشه، بل ليعمل بالمبدأ العربي: الحاكم في القصر أو في القبر.

عندما سقطت طليطلة سنة 1084م، نتيجة تقاعس ملوك الطوائف عن نجدتها، فإن سقوطها لم يكن سقوط مدينة وإنما بداية لحرب صليبية استهدفت المغرب الإسلامي (حروب الاسترداد) والمشرق من خلال باكورة الحملات الصليبية سنة 1096، على بلاد الشام، وأخذت الحصون تتداعى واحدًا تلو الآخر. وقد كان من الممكن لحادثة سقوط طليطلة أن تكون الشرارة والانطلاقة لتوحيد الجهود تجاه العدو الخارجي، وبدل أن يقف ملوك الطوائف متفرجين كان يجب أن يبادروا، ولكن عدم استثمار الفرصة جعل من معركة طليطلة بداية النهاية لملوك الطوائف وبداية الحملات الصليبية المشرقية.

في خضم تلك الأحداث لم يقف علماء الأندلس متفرجين ولم يكن عندهم تويتر وفيس ليغردوا وينشروا، ولم يكن عندهم رصاص، لكن كان عندهم لسان وقلم من رصاص فعملوا بما يمليه عليهم دينهم لا بما يمليه عليهم كتيب إرشادات أصفر أعدته مراكز إعلامية وسياسية لما يجب ومالا يجب، فكانوا طليعة الأمة لا طابورها الخامس.

إنه في اللحظات المصيرية يجب أن تكون المواقف أيضًا مصيرية تتناسب مع جلل الخطب، وهي تحتاج جرأة ابن عباد؛ لا ليتنازل عن حكمه وعرشه، بل ليعمل بالمبدأ العربي: الحاكم في القصر أو في القبر، ومن أراد القصر فلينازل دفاعًا عنه في الثغر كما يجب، فإذا انتهى في القبر يكون أبرأ الذمة ووفى الأمر حقه وأبر، وفي قصة المعتمد ابن عباد عبر وفي مصير صدام حسين عبرة لمن اعتبر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.