شعار قسم مدونات

كتِلك الكافِ التي تَحكِينا

blogs - sunset

الجمالُ هو ذاكَ التعريفُ المُبهَمُ عنا، الذي لطالما حاولنا الوصولَ إلى مَكنونِه، عَلَّ الجمالَ بنا! بما حولنا! بما يُحدِثُ اللهُ بنا ولنا! عَلَّ الجمالَ كالنورِ الذي يَتَخلَّلُنا فيَنهمِرُ الفؤادُ فَرحاً، كالصوتِ الذي يحنو علينا بنبرةٍ تَجْتاحُنا، كصندوقِ الألعابِ المُخَبأ بينَ جَلابيبِ أرواحِنا نَطَلِّعُ عليهِ ليلاً كطِفلٍ شارِد، كالقلمِ الذي يَخُطُّ أحاديثَ القلبِ المَكنونة المَخبوءةِ هُنا وهناكَ بينَ أرجائِنا، بين الأزِّقَةِ والأنقاض، كالصمتِ الذي يُحَدِّثُ عنا، كتلكَ الأنشودةِ التي نُحاكيها ونُرددها بصوتٍ لا يُطرِبُ الأسماع.
 

تعلمُ أنَّ السيرَ وصولٌ؛ فلا تَستعجِلِ الخُطى، تَمضي كي تبلُغَ غايتَها دونَ فُتورٍ أو سَأم، إنِ اعوجَجْتَ قَوَّمُوك، وإنِ انغمَسْتَ أخرجوك.

كمرورِهِم الجميل الذي لمْ يُثْقِلْنا يوماً، كاللذينَ عبروا كأنْ يَحضروا وحضروا كأنْ لمْ يكونوا هَـٰهُنا، كاللذينَ نظروا فلمْ نَلتَفِتْ؛ لِخَفيفِ نظرِهِم ، نَظروا ففَطِنوا لكلِّ مَخبوءٍ بِنا، فأزاحوهُ كأنْ لمْ يَكُن، كأحرفٍ كُتِبَت بأيْمُنِ أرواحِهِم فانفلتَنا مِنّا ولمْ يَعُدْ للنَحيبِ سُكْنَى، كتلكَ الوريقاتِ التي تَنْظُرُنا فتَحمِلنا إلى الكَتْبِ بها ؛ إذْ تُواسينا، كأيامِ طفولتِنا التي نَحِنُّ إليها ونشتاق، كالسوقِ الذي تَصحبُنا إليهِ مُهجتُنا " أمُّنا الغالية " الذي نَذكرهُ رُكناً رُكناً، كالدعاءِ في أسحارِ الليلِ نلتَمِسُ فيهِ رحمةً من اللهِ ـ جَلَّ في عُلاه ـ، نلتمسُ نوراً كلما سِرنا بهِ عَبرنا، " نوراً يُبيدُ حَلكتَنا "، كصُحبةٍ تَسيرُ علي الدربِ معنا ، لا تَلتفتُ لِتَسقُطَ بما مضى، لِترى كم من الأميالِ قدِ انقضى!

 

تعلمُ أنَّ السيرَ وصولٌ؛ فلا تَستعجِلِ الخُطى، تَمضي كي تبلُغَ غايتَها دونَ فُتورٍ أو سَأم، إنِ اعوجَجْتَ قَوَّمُوك، وإنِ انغمَسْتَ أخرجوك، كُلما سَمِعوا نُواحَكَ فَطِنوا؛ إذِ الأرواحُ تآلفَت، فإنْ يكونوا فُرادى يأتِ بهم اللهُ جميعاً لِيضُمَّ قلوبَ بعضِهم إلى بَعض، ألَا فإنَّها قد صَلُحَت فَصَلُحَ عملُها، فما كانَ إلَّا اجتماعَ خيرٍ بِهم، إذْ يَحِنُّ السائرُ إلى العضو، وإنْ يشأِ اللهُ في الفردوسِ جَمعَهُم.. كأنْ يرزقَكَ اللهُ بمَن يَهمسُ فيكَ بصوتٍ خافتٍ يَنزِعُ آثارَ شَجَنٍ ساكن، ويزيلُ رَمادَ ألمٍ راقِد مَن يربِطُ على قلبِك ويَشُدُّ عَضُدَكَ في زَحامِ الفِتَن.

 

"مَن تحيا بهِ ويَحيا فيكَ".. كالطفلِ الذي نُرزَقُ إيَّاهُ حلالاً، كصوتِ بُكائهِ الذي يُزْعِجُنا ليلاً، كالنومِ بَعدَ عملٍ شاق، كأولِ راتبٍ لنا، كالحذاءِ المُمَزَّقِ هُناك، ذاكَ الذي يَحلو كلما مَرَّ الزمانُ عليه، كالشيخِ الذي بترتيلِهِ نَخشع، كصورِ طفولتِنا المَطبوعةِ بمُضْغَتِنا، "كتلكَ الكافِ التي تَحكِينا"..

 

هذا الجَمالُ الحاضِرُ الغائِبُ عنا، المُستَتِرُ بتفاصيلِ حياتِنا، عَلَّ الجمالَ يَرنو لنا لكنِ القلوبُ عَمِيَت، عَلَّهُ حدَّثنا يوماً فلمْ نسمعْ؛ لِنقاءِ ما يَحمِلُ وكدرةِ ما نُمسِك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.