شعار قسم مدونات

عندما تموت المدن بتفاهمات دولية

Blogs - Syrian people walk a street near Arabic inscription written on a damaged building reading 'Aleppo is bleeding, I will not give up your soil' one day after a ceasefire was announced, at al-Mashhad neighborhood in the rebel-held part of Aleppo, Syria, 14 December 2016. Syrian Observatory for Human Rights said fighting erupted around the final rebel-held area of Aleppo on 14 December as the scheduled ceasefire and mass evacuation of opposition fighters from the area stalled.
كانت الأخبار مدوية وصاعقة كالبرق، أسابيع متتالية لازمتني حلب، كانت جزءاً لا يتجزأ من كياني ومدينة لا مهرب من عشقها، رغم أنني لم أزر حلب وعلى الرغم من تلك المسافة التي كانت تفصلنا طوال تلك الفترة الماضية إلا أنها كانت تشغل كل شيء في داخلي.

لربما كان حظي هو الأسوأ بين زملائي أن أسلم نفسي ملف حلب، وأعطيها كل وقتي من أجل تغطية ما يجري في تلك البقعة القابعة على ضمير الإنسانية في القرن الحادي والعشرين، كان عليّ أن أقاسم أهلها أحزانهم وأفراحهم، وأي أفراح كانت ستكون في ظل إجرام الروس، كنت شاهداً وشهيدا على كل ما جرى في تلك المدينة رغم المسافات الشاسعة التي تفصلنا.

كان عليّ أن أكون على إتصال دائم مع شبابها وناشطيها وثوارها، كان عليّ أن أساهم في إيصال أصواتهم التي حملوني إياها أمانة، وكيف لي أن أحمل تلك الجبال، كيف سأحمل أمانة بحجم الجبال الشاهقة.. في كل وقت متأخر من الليل طوال الأسابيع الماضية كنت أعتذر لحلب عن تقصيري، فمن أنا حتى أحمل جزءاً من تلك الأمانة!

طوال الفترة الماضية التي خمدت فيها غالبية جبهات سوريا من الجنوب حتى الشمال سحب النظام قواته والميلشيات المساندة له للزج بها في معركة حلب.

مع بدء ما يسمى عملية "درع الفرات" في الشمال السوري قبل أشهر، كنت أتسائل حينها عن الإتفاق الروسي – التركي، الذي لم يكن يخفى على أحد، وماهي التنازلات التي قدمتها تركيا مقابل تحييد الطيران الروسي عن منطقتها الآمنة، فقد كانت حلب ضحية تفاهمات روسية تركية، اتضحت ملامحها الآن بشكل واضح لا غبار عليه.

كانت أحياء حلب تتهاوى بشكل سريع ومفاجئ، لم تكن الأسباب هي فقط كثافة الضربات الجوية الروسية والتغطية النيرانية التي يؤمنها جيش الأسد والميليشيات الشيعية، فقد صمدت مدينة داريا بريف دمشق لسنوات أمام الطيران الحربي والبراميل المتفجرة، كما يصمد الآن حي جوبر الدمشقي، لكن ما جرى في حلب كان دليلاً على عدم جاهزية الفصائل بداخل المدينة لأي معركة رغم علمها المسبق باقتراب عملية "الحسم".

لم تكن السواتر والدشم معدة جيداً ولم يكن لدى ثوارها أنفاق مجهزة لإيقاف أي عملية زحف لقوات النظام، أضف إلى ذلك ضعف التنسيق بين الفصائل داخل الأحياء المحاصرة، وسارعت الفصائل لتدارك ما يجري وإعلان توحدها ضمن "جيش حلب" الذي لم يتم فعلياً على الأرض.

كما لم تكن هنالك ثقة كاملة بين الفصائل، فكل فصيل كان يخشى تقدم النظام على نقاط رباط فصيل آخر بجواره، ويقع هو في كمين قوات النظام، لذلك مع بث النظام لإشاعات كاذبة كانت الأحياء تسقط وهي لم تك فعلاً سقطت.

أما في خارج الأحياء المحاصرة، فلم تكن هنالك نية "حقيقية" لدى كثير من الفصائل في فك الحصار عن المدينة، ما يؤكد ذلك أن كثير من الفصائل بريف حلب وإدلب سحبت قوتها إلى معركة "درع الفرات" وغالبية هذه الفصائل مازالت مجموعاتها موجودة داخل الأحياء المحاصرة.

لكن ما زال السؤال الذي يحير الجميع كيف ضغطت تركيا على الفصائل خارج الأحياء المحاصرة بإيقاف جميع العمليات العسكرية التي من شأنها أن تخفف الضغط أو حتى إيقاف حملة النظام وروسيا على الأحياء المحاصرة.

مع اقتراب اكتمال المنطقة الآمنة التي تقوم بها تركيا ضمن عملية "درع الفرات" حاولت تركيا قلب الطاولة على الروس ونقض اتفاقها المشؤوم الذي قتل حلب وجعل منها "حلب تباد"، لذلك دعمت تركيا فصائل المعارضة بشكل جيد في أواخر تشرين الأول الماضي، للتقدم باتجاه ضاحية الأسد والكليات والأكاديمية العسكرية لفك الحصار عن الأحياء المحاصرة، وهو ما رأته تركيا قلب الطاولة على الروس وكسب المزيد لصالحها.

إلا أن الرد الروسي كان سريعاً بقصف جوي لطالما غاب عن مناطق درع الفرات، والذي أسفر عن مقتل اثنين من الجنود الأتراك، ذلك القصف الذي لم يُحدّد فاعله فيما إذا كان طيران النظام أو الروس، إلا أنه كان كافياً لوقف معارك فك الحصار والعودة إلى الاتفاق والانسحاب من ضاحية الأسد تحت ضربات روسية "عنيفة جداً".

توقف كل شيء بعدها وعلمت تركيا أن لا مجال بعدها لإنقاذ الأحياء المحاصرة، وبدأت روسيا بضربات جوية سيذكرها التاريخ، وأوعزت لآلاف الميلشيات الشيعية بالتقدم على الأرض، كانت المدينة تحترق بنيران حقدهم وصمت العالم، وكان على روسيا أن تكمل جريمتها بشكل سريع.

رغم كل ما حصل إلا أن ما جرى في حلب كان خيراً ودرساً لنتفادى الأخطاء مستقبلاً ونعلم أن في السياسة لا صديق دائم ولا عدو دائم، كل شيء يتغير بتغير المصالح.

فطوال الفترة الماضية التي خمدت فيها غالبية جبهات سوريا من الجنوب حتى الشمال سحب النظام قواته والميلشيات المساندة له للزج بها في معركة حلب، وتحتشد الآن في حلب أكثر من نصف قوة النظام، والتي يمكن للمعارضة إن كانت جادة في معاركها أن تقلب الطاولة على الجميع، وأن يصبح المُحاصِر مُحاصَر، عبر قطع طريق إثريا خناصر، الشريان الوحيد لقوات النظام في حلب، وبقطعه ستصبح كل تلك القوات محاصرة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.