شعار قسم مدونات

بوتين وترامب.. و"كليلة ودمنة"..

A man walks past a mural depicting Russian President Vladimir Putin (L) and US President-elect Donald Trump (R) in Belgrade, Serbia, 5 December 2016. The message on the mural reads in Serbian, Russian and English 'Kosovo is Serbia'.

في عالم الحيوان هناك أنواع من المفترسات.. وهناك هرم غذائي مضبوط.. فهناك المفترس الشرس الذي يقف على قمة الهرم، وهناك آكل الجيف، وهناك السارق الانتهازي، وهناك الكائنات القمامة.. وفي السياسة الدولية يتكرر نفس الشيء، لكن ليس بمنطق "كليلة ودمنة"، وإنما بحكم الأمر الواقع.. لتوضيح الصورة أكثر، يمكن أن نستحضر الحالة السورية.. البعض يصدقون فعلا أن هناك تحالفات وتقاطبات أنداد.. بينما الواقع يشير إلى أننا أمام "مناطق صيد" يتم تقاسمها بين المفترسات الكبيرة..

 

مع الأسف، نحن أمة لا تقرأ التاريخ جيدا.. رغم أنها مقيمة بشكل شبه دائم في "الماضي".. وحكايات كانوا وكنا..

لتوضيح إضافي.. لا يحدث في الغابة وفي عالم الحيوان أن يصيد الدب فريسة ثم يدعو الذئب أو الثعلب لمشاركته فيها.. لكن بالمقابل يمكن لهذا الدب أن يتدخل في اللحظة المناسبة للسطو على "الفريسة" بعدما يكون "الذئب" قد طاردها وأرهقها وربما قتلها.. بتطبيق نفس النظرية على عالم حيوانات السياسة الدولية نتساءل: ما الذي قد يدفع روسيا مثلا لتتقاسم غنائمها السورية مع إيران؟ وهل يقبل "الدب" شريكا على "المائدة"؟ وهل يعشق "الدب" إلى هذه الدرجة "الأسد" ليدافع عنه؟

 

مع الأسف، نحن أمة لا تقرأ التاريخ جيدا.. رغم أنها مقيمة بشكل شبه دائم في "الماضي".. وحكايات كانوا وكنا.. فوحدهم أبناء هذه الأمة يصدقون أن هناك صراعا بين أمريكا وروسيا مثل الذي حفلت به سنوات "الأدلجة" في الخمسينيات والستينيات.. حين كانت "الحرب الباردة" غطاء لتقاسم "مناطق النفوذ" في العالم، لكن الأمر اليوم في الواقع أصبح أشبه بتقاسم "مناطق الصيد".. فأمريكا افترست العراق.. وروسيا افترست سوريا.. واحدة بواحدة.. والبادئ ألأم..

والمشكلة الأكبر تكمن في أمة تصدق أن الآخرين يمكن أن يحاربوا نيابة عنها.. ولو بمقابل.. صدقت دول الخليج أن أمريكا حركت جيوشها للقضاء على "الوحش" العراقي الذي خرج جريحا من حروبه "القومية".. وصدقت إيران وحلفاؤها أن روسيا استعرضت قوتها بكل تلك الوحشية على الأراضي السورية فقط من أجل ترجمة نظرية "الهلال الشيعي".. أو وفاء لنظام "الأسد".. غاب عن هؤلاء وأولئك، أن أمريكا وروسيا تتحركان وفق استراتيجيات ولأهداف مغايرة تماما لأهداف من يعتقدون أن كل شيء يمكن شراؤه بالمال.. أو اعتمادا على معجزات "الحسين"..

 

الفرق الوحيد بين الدولتين يتمثل في أن أمريكا، كغيرها من الديموقراطيات "الشائخة"، نجحت في مأسسة النظام، وبناء Establishment، بحيث تستمر "الماكينة" في الدوران، بغض النظر عن نوعية الرئيس والحزب الحاكم. الدليل على ذلك، هو نجاح ترامب في الانتخابات الأخيرة.. فالطمأنينة التي يشعر بها الأمريكيون رغم وصول رئيس "جاهل" بأصول السياسة إلى البيت الأبيض، مردها بالدرجة الأولى، إلى أن الإدارة الجماعية المحترفة هي التي تصنع القرار في النهاية. لا يتعلق الأمر هنا بدولة عربية أو إسلامية حيث "الحاكم ظل الله في الأرض".. بل بواجهة فقط لماكينة تتحرك وفق كتالوج مضبوط.. ربما تختلف الأساليب لكن الأهداف الكبرى لا تتغير.. واسألوا "قضاينا" ماذا تغير فيها منذ تقسيم فلسطين رغم تعاقب رؤساء من كل لون على المكتب البيضاوي..

 

بعبارة أخرى.. الرئيس في أمريكا قد تكون له بصمته الشخصية، لكن تأثيرها محدود جدا على السياق العام وعلى التوجهات الاستراتيجية.. أما بالنسبة لروسيا، فالأمر لم يصل بعد إلى هذه الدرجة، من الضبط والمأسسة، ولذلك لا يمكن الحديث عن "مدى بعيد" في السياسة الروسية.. لأن التوجه الحالي مرتبط بـ "شخص" و"شخصية" الرئيس بوتين.. ولا أحد يستطيع أن يضمن ما الذي قد يفعله من يأتي بعده.. وتلك "طبيعة الأشياء" في دول تتمحور "السياسات" فيها حول أشخاص -يرحلون يوما ما- وليس على استراتيجيات أو مؤسسات -دائمة بشكل أو بآخر-.. لكن هذا لا يمنع من الاعتراف بأن بوتين أعاد روسيا إلى قائمة "المفترسات".. وهي قائمة ضيقة جدا وصارمة جدا جدا.. في قبول العضوية..

 

يبدو أن الأنظمة العربية في حاجة ماسة اليوم إلى "بيدبا" جديد يكتب لها طبعة جديدة، مزيدة ومنقحة، من "كليلة ودمنة" لعلها تفهم على لسان الحيوان ما يجري في عالم الإنسان.

فألمانيا واليابان مثلا رغما أنهما قوتان اقتصاديتان كبيرتان جدا إلا أنهما أشبه ما تكونان بـ "الحيوانات العاشبة"، التي أقصى ما تطمح إليه هو السماح لها بـ "الرعي الأمن" في محيط مناطق الصيد المحروسة والمحرمة.. ودولة مثل الهند رغم مليار من البشر ورغم القوة الصناعية ورغم السلاح النووي إلا أنها لا تستطيع أن تمارس "الافتراس" حتى في محيطها القريب.. بل كل في مقدورها هو مناوشة ومنافسة جارتها اللدود الباكستان.. لتحقيق نوع من توازن الرعب الذي لا يمكن أن يتخطى حدود البلدين "المتعايشين" منذ عقود..

 

ومن هنا ينبغي أن نفهم مبررات الحرب على الدول الناشئة التي تبذل "المفترسات" الكبيرة، جهدها لتظل دائما في مستوى الحيوانات "القمامة" مهمتها الأساسية تطهير الساحة من بقايا الجثث المتعفنة.. ومن رفع بصره أبعد من ذلك، فإن هناك أنياب ومخالب كثيرة لتذكيره بموقعه..
 

ويبدو أن الأنظمة العربية في حاجة ماسة اليوم إلى "بيدبا" جديد يكتب لها طبعة جديدة، مزيدة ومنقحة، من "كليلة ودمنة" لعلها تفهم على لسان الحيوان ما يجري في عالم الإنسان.. لكن شرط إلا تعمد إلى قتل المترجم ابن المقفع مرة أخرى.. فحاكي الكفر ليس بكافر..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.