شعار قسم مدونات

أزمة التيارات الدينية في العالم العربي

blogs - islamist
دخلت المؤسسات الدينية ورموزها -على اختلافهم- في دوامة كبيرة بعد ثورات الربيع العربي، فهي فشلت في أن تصوغ خطاباً تجديدياً يتفاعل مع المستجدات ويُنير الدرب للشباب الغاضب والحائر في آنٍ واحد، عمق الأزمة يتضح بالزيادة المضطردة في قلة الثقة بهذه المؤسسات ومن يقوم عليها، ومع تنامي الاعتقاد "بمعضلة الشر والألم" التي يفترض الإنسان من خلالها أن العالم يجب أن يكون مثالياً فيصطدم بالواقع المرير المليء بالشر والظلم يتطور الأمر عند الكثيرين إلى اعتناق الإلحاد فيما يبدو أنه نتيجة حتمية لفشل هذه المؤسسات في تبنّي مواقف مبنية على فكرٍ وسطيٍ واقعيٍ يجاري المتغيرات والمستجدات المتسارعة.

تتصف المؤسسات الإسلامية المعاصرة بأنها تتعامل مع مشاكل الأمة بنوع من الجمود، وذلك لأنها مشاكل مستحدثة لم تطرأ على هذه المؤسسات من قبل، فهي تتعامل مثلاً مع مشكلة الإلحاد باعتبار الملحد الذي كان مسلماً في يومٍ من الأيام شخصاً مغرضاً مرتداً ومدفوعاً من الجهات التي تبتغي هدم صرح الإسلام وهي بهذا تتجاهل البعد الإنساني الذي يجعل من الملحد ملحداً، فالإلحاد في بلادنا ردة فعل إنسانية طبيعية للظلم والقهر المصحوب مع الجهل لا أكثر! لأن بيئاتنا ومجتمعاتنا تفتقد بالأساس للمناخ السليم اللازم لنمو الأفكار والآراء على اختلافها ولذا فالإلحاد مجرد ردة فعل غاضبة.

مشكلة التيار الديني لا تنحصر فقط في المؤسسات الدينية المؤيدة للأنظمة الطاغوتية بل تمتدّ لتشمل فئة المعارضين كذلك.

وعندما نذكر مشكلة الهجرة لبلاد الغرب يكون الرأي الديني الطاغي على الساحة هو حرمة الهجرة والتي أفتى بها كثيرٌ من العلماء والدعاة حالياً، وهم بذلك يضعون ملايين المسلمين الذين يعيشون في الغرب في مأزق ديني حرج، فالمسلم البسيط الذي يعيش في الغرب سيرى نفسه أمام خيارين: إما عاصياً بهجرته أو مستخفاً بالأحكام الدينية! وكلاهما خطير.

وعلى ذكر الاستخفاف فقد بلغ الاستخفاف بالمؤسسات الإسلامية وشخصياتها مبلغاً لم يسبق له مثيل، فعندما يفتي أحدهم بأن جباه من خرجوا متظاهرين "لا تعرف السجود" وتسمع ما يقوله الناس العاديون عن مثل هذه الفتوى المريعة تعرف عمق الأزمة، بل حين يفتي آخر بوجوب "قتلهم" لأنهم "ناس نتنة وريحتهم وحشة!" وتقرأ ما يكتبه الناس حول ذلك تدرك مدى البَوْن الشاسع بين الشعوب وبين نخبها الدينية.

المشكلة في رأيي لها شقّين: شق تاريخي وشق معاصر، فالشق التاريخي بدأ عندما بدأ تاريخ الاستبداد والحكم العضود في الأمة، ومنذ ذلك الحين بدأ دور المؤسسات الدينية ينحسر شيئاً فشيئاً، ففي بداية عصر الإسلام كان للمؤسسة الدينية احترامها وتقديرها الذي يفوق تقدير الحاكم نفسه، بدأ هذا الأمر يقلّ حتى صحونا على المشايخ والوعاظ الذين أصبحنا نراهم يصفقون للظلم وللاحتلال جهاراً نهاراً وبدون أيّ استحياء!

أما الشق المعاصر فبدأ حين مُنعت الأمة من الاجتهاد بقرار رسمي من الخلافة العثمانية لم نتمكن من التخلص من آثاره بعد انقضاء مدة زمنية لا بأس بها عليه، والحقيقة أن منع الاجتهاد ولّد أجيالاً ومدارس إسلامية نشأت بأكملها في جو يخلو من أي تجديد أو تحديث ويقدّس الجمود والهروب من الواقع نحو النظرية.

وتقديس الجمود جاء مصحوباً مع النظرة المثالية العاطفية للتاريخ ليشكّل الفكرة السلفية في صورتها المعاصرة، وهي طامّة فكرية لوحدها! فالفكرة السلفية تفيد بأن العودة للوراء خيرٌ من السير للأمام وفي هذا معاداة للمنطق وللواقع وللسنن الكونية التي خلقها الله على هذه الأرض.

والفكرة السلفية ليست محصورة بالتيار السلفي فقط وإن كان هو الأشدّ في تطبيقها، فصوفية اليوم يقدسون الماضي وأشاعرة اليوم كذلك الأمر، بل وقل نفس الشيء عن الأمة بأكملها ربما! إذ أننا أمة تقدس التاريخ وتقدس الفعل الماضي الناقص "كان" كثيراً! وفي هذا صورة من صور أزمتنا الفكرية المعاصرة.

مشكلة التيار الديني لا تنحصر فقط في المؤسسات الدينية المؤيدة للأنظمة الطاغوتية بل تمتدّ لتشمل فئة المعارضين كذلك، فهم فشلوا في تعريف الكثير من القضايا الغامضة والمتشابكة التي طرأت بعد ٢٠١١، اطّلع فقط إلى التنظير الفارغ من القيمة والمعنى حول فكرة الدولة الإسلامية أو الخلافة مثلاً، فالشخصيات الإسلامية تجنبّت الحديث في البداية بشكل قاطع ضد من يرفعون شعارات الخلافة، ثم تجنبت الحديث عن أن فكرة الخلافة هي فكرة مستحيلة التطبيق على أرض الواقع حالياً، وعندما وقع الفأس بالرأس وأصبح هناك ما يسمى بالدولة الإسلامية أصبح حديثهم عن القضية خجولاً وتوصيفهم للأمور بعيداً عن الواقع، ومجرد تجنّب الحديث عن هذه القضايا ينبئك بحجم الانفصال عن الواقع الذي تعيشه هذه المؤسسات.

ثمّة فئة ثالثة من المؤسسات الإسلامية تقف صامتةً لا تريد الحديث عن شيء، تحاول التجنّب قدر الإمكان لظنّها بأن حديثها لن يقدّم نفعاً ولا ضرّاً، ولكنهم نسوا أو تناسوا أن الأصل والواجب هو التبليغ وأن الهداية إرادة إلهية بحتة لا يملك أحدٌ التصرّف فيها.

قد يقول قائلٌ أنني أحمّل المؤسسات الإسلامية المسؤولية كلها ولكنني أرفض ذلك بالطبع، فالأزمة أزمة وعي عند أمة بأكملها والمؤسسات هذه مجرد جزء من الأمة، ولكنني ركزت الحديث عن التيار الديني لاعتقادي بأن مسؤوليته في توعية المجتمعات أكبر من مسؤولية أي جهة أخرى، ذلك لأنه من المفترض أن يتصدّى لهذه المهمة وأن يكون في المقدمة.

يبقى الحل في نظري في نشوء فكر إسلامي جديد مبني على خلاصة تجارب السنوات الأخيرة، طبعاً لن يظهر هذا الفكر فجأةً كما أنه لن يظهر بمعجزة بل يحتاج إلى عمل دؤوب وإلى شخصيات إسلامية شابّة صقلتها التجارب وتمتاز بالجرأة والحكمة والتجديد، وهذا الفكر يحتاج إلى بعض الوقت بالطبع حتى يتبلور ويتشكّل، وحتى ذلك الحين سندعو لهذه الأمة بأن تخرج من معركة الوعي هذه بأقلّ الخسائر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.