شعار قسم مدونات

لٍمَ تلْفِظُني؟!

blogs - الوطن
يقول د. أيمن العتوم: "وجودكَ في المكان يقدحُ زنادَ الذاكرة ويستخرجُ من أدراجها القديمة ما لا عهدَ لكَ به."

 

أيُحبُّ الإنسانُ المكانَ ويفتقده؟

يبقى المكان جمادًا لا تربطنا فيه أيُّ علاقة حتى نشهدَ فيه دمعة فرَحٍ أو قوّة صداقةٍ أو حتى آلامًا أعاننا ذاك المكانُ على تخطّيتها أو جُروحًا خلّدها بقسوته علينا أو لرُبّما أشياء لا تساوي بحّد ذاتها أي قيمة، إلا أن ارتباطها بمركز فرحٍ وذكرى سعيدة أو حزينة في عقل الواحد منّا منحها دون غيرها قيمةً غير عادية!

 

تتجلى مشاعر الغربة باختلائِكَ ونفسكَ والمكان وحدكم لتبدأَ ذكريات وتفاصيل -كنت تعتقدُ أنها أتفه ما يكون- بالرقص في مُخيّلتك كأنما تقول لك: "ذهبتُ ولن أعود فلتَمُت بِغَيظك"!

غيابنا عن المكان له -من محوِ ذكريات وتفاصيل جميلة عشناها- ما له، ذاك أنّ الذكريات تستلقي في ثنايا المكان ثمّ تهبُّ واقفةً ما إن وخِزَت في الذاكرة وأُحييت من جديد! إذاً فنحنُ عندما نحنّ لمكان ما فهو نتاجُ أُلفة، ولو أننا لم نألف المكان ولم يكن لنا كالصديق أحيانا لما آلمنا الرّحيل! عندما نحنّ لا نحنّ بطبيعة الحال لمكانٍ لم نطأهُ يومًا!

 

ولرُبّما هذا يُفسّرُ مشاعر المغترب الذي لم يرَ وطنه يومًا فهو إن شعرَ بشيء تُجاه الوطن فلن يتعدّى مُجرّدَ "رغبةٍ" بعودة أو حتى زيارة، ولأنه لم يحتفظ بذكرى جميلة تقطعُ ضجّة سير حياته فهو لا يحنّ كمن عاش وخالط وجرّب. عندما نحنّ لا نحنّ إلا بعد الفراق لأننا عندها ننسى كل العثرات والمآسي التي واجهتنا في ذاك المكان ويبقى جمال الذكريات لتنخزَ المُقَل! وأحيانًا نحنّ لتلك المآسي والعثرات فهي إن لم تزرع فينا فرحًا فلا بُدّ أنها منحتنا تجارب أفادتنا أو كشفت لنا صِدقَ الصديق وغدرَ من كنّا نظنّه صديقًا!

 

(ولكن).. ماذا لو لَفَظَنا المكان؟ ماذا لو لم يعُد لنا الصديق الحميم؟ والأَمَرّ، ماذا لو أصبح مصدر تعاسة وحزن بعد أن كان كُلُّ الفرح فيه؟ أو حتى ماذا لو أُجبرنا إجبارًا على تركه ودفن كُلّ ذكريات الماضي الجميل فيه والمُضيّ قُدُمًا نحو شيءٍ جديد ومكانٍ آخر لا نعرفُ عنهُ حتى مكانه! سنرى المكان حينها غابةً مُظلمة وسيبقى سؤالًا مُلِحًّا: لِمَ بعد أن كنتَ لي الملجأ تلفِظُني كما يلفِظُ المريضُ سُعالاً آلِمِه؟! لِمَ أشعرُ بتلك الغربة في مكانٍ لطالما كان ليَ كلَّ الأمان!

 

ولكنّ معرفةَ إجابات بعض الأسئلة أحيانًا تزيدُ الألم ألمًا أمّا الجهلُ فيسمحُ لخيالك أن يبني أعذارًا ويحتفِظَ ولو بقليلٍ من حُبّك لذاك المكان. وتتجلى مشاعر الغربة تلك باختلائِكَ ونفسكَ والمكان وحدكم لتبدأَ ذكريات وتفاصيل -كنت تعتقدُ أنها أتفه ما يكون- بالرقص في مُخيّلتك كأنما تقول لك: "ذهبتُ ولن أعود فلتَمُت بِغَيظك"!

 

عندها علينا أن نتظاهرَ بالقوّة حتى نؤمنَ نحنُ أنفسنا أننا ما عاد يربطنا بذاك المكان أدنى علاقة وأننا قادرين على المُضيّ قُدُمًا حتى لو لم نكن كذلك.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.