شعار قسم مدونات

سأشرق حين تغرب الحرب

blogs-الإصلاح اليمني

ولدت في الحرب ونشأت رفقتها، ظننتها صديقة حميمة وحين أوشكت إكمال العقد الثالث من عمر التعب كانت قد غدت قوية وخائنة بما يكفي لتركلني خارج البلاد. في العام 1986 جئت إلى الحياة وكانت قبيلتنا تخوض حربا ضروسا مع قبيلة أخرى وحين بلغت الثامنة كانت جدتي ونساء كثر من قريتنا يبكين أبنائهن الذين اصطحبتهم الحرب بعيدا الى الجنوب.

 

في الثامنة عشرة سمعت قريتنا لأول مرة دوي المدافع الكبيرة على مقربة منا إلى الشمال، كانت أولى حروب صعدة قد دشنت. في التاسعة والعشرين أخذت الحرب شكلا آخر، وكان الرحيل الأول.. رحلت عن قريتي دون توديع أحد، حتى أمي، كانت ثمة قسوة غريبة تجتاح قلبي بضراوة وتصحره بلا رحمة وما ثمة من سحابة مطيرة في الأفق غير نقع الحرب ورعودها.. أواه يا طفل الينابيع والوديان والأحراش المظلمة الذي كنتهُ، أين أنت أيها المفتون بشبق اكتشاف الطبيعة والعالم، أنا الذي تبكيني أغنية أو ترجيع صدى ناي في الجبال، ما عدت أشعر بشيء سوى بالقرب الشديد للموت، وحده الموت يضع حدا لكل هذا العبث.

 

في أول ليلة منفى، حاولت أن أغمض جفني فلاحت لي فتاة جميلة تحمل قلبي بيدها كمعجزة نبي، فأيقنت أنه لا يمكنني الابتعاد أكثر. أنا ابن الأرض، أغنية الحقل وقصيدة المرعى.

ذات صباح سمعت قصيدة من مذياع جدي وكان الجميع يتحلق حوله وينصت بانتشاء ودهشة، فقررت أن أصبح شاعرا، وعندما رأيت أول شاعر يزور قريتنا كرهت الشعراء، كان بدينا، مسنا، أدردا ويكح بطريقة مخيفة، لكنني رغم ذلك بقيت أحب الشعر، كانت أمي تحلب لي القصائد من ضروع الشياه وكان أبي يكتبها بالمحراث في الحقل وعمي يحطبها بفأسه من الدغل الكثيف وجارنا العائد من الغربة ينشرها في دخان مداعته، كان كل شيء في القرية جميل، بسيط وشاعري ولم تكن الحرب قد اقتربت بعد.

 

في الصف السادس قال لي أستاذ التربية الاسلامية "الجنة تحت ظلال السيوف" وكان ثمة بندقية قديمة معلقة بأحد جدران بيت جدي لم يسبق أن حركها أحد قط من مكانها منذ رأيتها، وحين أردت تناولها لأعرف الجنة التي تخفيها كانت صعقة شديدة تشل يدي من أطراف الأنامل حتى الكتف وكان عقرب أسود مرعب يخرج من تحتها شاهرا سيفه كما لو أنه يقول لي: اسلك طريقا آخر بعيدا عن الوهم. فيما بعد قرأت عن الكاتب الأرجنتيني العظيم بورخيس أنه تخيل الجنة على شكل مكتبة، وما إن امتلكت أول كتاب حتى وجدت الطريق الى فردوسي. قضيت وقتا طويلا مع همنجواي وميلان كونديرا وتولستوي ومو يان والطيب صالح ولم أتخيل يوما أن أغادر قريتي العزيزة إلا لأرويها للعالم ومن ثم أعود لأروي لها العالم الذي رأيت، بيد أن الحرب أرادت غير ذلك.

 

عندما وصلت أول مدينة في منفاي القريب تخلصت من كل شيء يذكرني بالوطن، استبدلت ملابسي وحذائي وساعة يدي، حتى هاتفي المحمول ألقيته في برميل قمامة أزرق، كان اليأس والضيق والانتقام يدفعني بقوة للانسلاخ من يمنيتي، أردت أن أذهب بعيدا جدا لبلاد لم يسمع أهلها قط من قبل بشيء اسمه اليمن، أن أصاب بالشيزوفرينيا حتى لا أذكر من أنا ومن أين جئت وكيف أعود.

 

لكن، وفي أول ليلة منفى، حاولت أن أغمض جفني فلاحت لي فتاة جميلة تحمل قلبي بيدها كمعجزة نبي، فأيقنت أنه لا يمكنني الابتعاد أكثر. أنا ابن الأرض، أغنية الحقل وقصيدة المرعى، حينما رأت أمي الحزينة البؤس يطفح من عينيّ، أرتني كفها المخضبة وقالت: هاك روحك يا بني، إنها في يدي ولن تجدها في مكان آخر. لذلك، وفقط حين أحببت حسناء يمنية، شعرت كم أنني يمني.

 

لقد عدت الآن كلي، قلبي وعقلي وروحي ومشاعري ولغتي، ولم يبق سوى هذا الجسد الكسول، عصيا على العبور كحلم حرون، وكلما صرخت به: هيا لاكتمالك، قال: سأشرق حين تغرب الحرب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.