شعار قسم مدونات

"الإيلاف" القاتل المتسلسل

blogs- إيلاف

إيلافُك للشيء هو شدّةُ ملازمتك له واعتيادك عليه حتّى يفرُغ من جوهر معناه ويبقى قائماً في حياتك بصورته فقط كجثّةٍ مستندةٍ إلى جدار حياتك، وعادةً ما ينتقل بك الإيلاف في نفسك من مرحلةٍ إلى أخرى ليبدّل حالك بعد ذلك من سعادةٍ وأمل إلى بؤسٍ وحَسَرات. كأدهى أنواع الفيروسات التي أعجَزت العلماءَ ومخابرَهم، يتسلّل الإيلافُ إلى حياة البشر منذ نعومة أظفارهم بشكله البسيط البدائي، فها هو ذا طفلٌ يلقي بلعبته جانباً بعد ساعات فقط من بكائه الطّويل للحصول عليها.
 

تكمُن الخطورة في هذا الدّاء في أنّه يتحوّر تبَعاً لتطور طموحات حياتك من مستوى لآخر، فحلم الأمس الذي أصبح اليوم واقعاً وحقيقةً سيكون غداً من مسَلّمات حياتك وبديهيّاتها والتي لن تُحدِث في نفسك بعد الآن لذيذَ طعمٍ أو جديدَ معنىً .الدّاء قديمٌ قِدمَ التاريخ، فلا بدّ أنّ قوم لوط قد اجترحوا بدعة الشّذوذ والممارسات العبثيّة بعد أنْ تجاوزوا مرحلة إيلاف الزّنا واعتياده، رغبةً منهم في الجديد ومَلالاً من مألوف القديم.
 

فراغ عقلك الظاهر الواعي تدريجيّاً عن تلمّس معاني النّعمة في كلّ ما يحيط بك هو بداية نهايتك، وتشوّفك التوّاق أبَداً لكل ما هو جديد لن ينتهي إلا مع آخر أنفاسك.

وهو بالذات ما أصاب بني إسرائيل إذ طالبوا نبيّهم بالدعاء العاجل ليخلّصهم من المنّ والسّلوى ويُسعفهم بالثوم والبصل "وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَن نَّصْبِرَ عَلَىٰ طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنبِتُ الْأَرْضُ مِن بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا".
 

واليومَ تنالُ أنت ولا مَحالةَ نصيبك من هذا الوباء.. نعم إنها زوجتك ذاتها والتي خاصَمْتَ من أجلها أمّك التي لم تقتنع بها ومن ثمّ أسرتَها التي لم ترحّب بك، ولكنّك ظفرت بها بعد سنين من المجاهدة، فلماذا تستبدل الآن الذي هو أدنى من خيانةٍ محرّمة بالذي هو خير؟! من هنا مرّ الإيلاف القاتل..
 

بعد فترة بسيطة من التزامك الجامعي في الاختصاص الذي اخترته طوعاً وعَزمْت على التميّز فيه بعد التّخرّج، يَعتريك هذا الشّعور الثقيل على نفسك كجبالٍ من الإيلاف الذي لا تدرك منه خلاصاً إلا بنسفِ كلّ ما أنجزتَه في سنوات عمرك بلحظة سآمةٍ قاتلة. ولكنّ هذا لا يعني بالضرورة أنّ نُزوعَكَ إلى التّجديد والرّغبة فيه شرٌّ مَحضٌ، فلولا هذا العنصر لاستدامتْ الحياة البشريّة على وتيرةٍ واحدة منذ خلق آدم إلى قيام السّاعة.
 

عادةً ما يكون الجانب النّفسي للكائن البشري هو البيئة الحاضنة لهذا الدّاء، وتبدأ الأعراض بالظهور على شكل ممارسة آلية غير متبصّرة للجانب المُصَاب من حياتك . ففراغ عقلك الظاهر الواعي تدريجيّاً عن تلمّس معاني النّعمة في كلّ ما يحيط بك هو بداية نهايتك، وتشوّفك التوّاق أبَداً لكل ما هو جديد لن ينتهي إلا مع آخر أنفاسك.
 

فإذا خشيت على نفسك هذا البلاء -وحقّ لك أن تخشى- فمهما حاولتَ أن تجدّد ما هو محيطٌ بك من معالم السّعادة الملوّنة من مَسكنٍ فخمٍ أو سيارةٍ فارهة، فسرعان ما ستصطبغ عاجلاً بلون الإيلاف الباهت .فإن قُلتَ: ها أنت ذا قد أفضْتَ في توصيف الدّاء فما الدّواء؟ قلتُ: هو مُتَاحٌ سهل المنال في قول الله عز وجل "لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآَمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ".
 

فالموفّق كلّ التوفيق هو من اتّخذ الإيلاف وسيلة للشكر ومطيّة لاستخلاص أدقّ لطائف المِنَن والهِبات، وفكّكَ هذا الجدار السّميك الحائل بينه وبين استشعار النّعم وحوّل أنقاضه إلى درجاتٍ تشكّل بمجموعها سلّماً يرقى به العبد مرتقى الشّاكرين، وعندها ستجد في كسرة خبزٍ يابس لذّةً لم تعهدها قطّ في ألوانٍ من نفائس الطعام..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.