شعار قسم مدونات

هي أشياء لا تشترى!

Blogs - man
"كل الذين ماتوا.. نجوا من الحياة بأعجوبة" محمود درويش ..
مما ذكرته لصديقي أثناء تناولنا بيتزا البيبروني بإحدى المطاعم العالمية الشهيرة بكاندي؛ حين أشرت إلى إحدى الشرفات المقابلة لنافذة المطعم، كانت شرفة لأحد الأكواخ السريلانكية التقليدية، تلبس ثوب البياض وتتزين ببقع اللون الأرجواني الفاقع. جذب انتباهي شاب في مقتبل الثلاثين من العمر.. يافع يرتدي فانيلة قصيرة وقماشة متباينة الألوان يأتزر بها، كان يقوم بتنظيف شرفته الصغيرة وسقاية شتلاته القصيرة، لا أدري لم شعرت بأن روحي قد تسللت حتى تعلقت على قضبان شرفته بينما توقفت أسناني عن مضغ شريحة تدلت من فمي كالأبله. قلت له بعد أن توقف عن الهزل والسخرية: إنني أود العيش هنا.. إنني أتوق إلى تلك البساطة والعفوية بعيدا عن المدنية والويلات اليومية التي غرقنا في لججها..

أكدت له أن ذلك الشاب لا يملك تلفازا في منزله يفتح عليه في أوقات فراغه باباً من الجحيم والذعر، إن الحياة هنا بديعة خلابة رغم الفقر.. فالفقر لا يعني التعاسة وضيق العيش.. بل إن الغنى والمال قد يجلبان لصاحبهما نكد العيش ويصرفان عنه راحة البال.. المتسولون يسيحون في الطرقات وبين الأزقة يتقافزون على موائد البشوات كالأورام الخبيثة.. ولولا قوانين الطبيعة الحاكمة لوقف أولئك السادة يتسولون في أبهى حلة نزراً من النقاء الذي فقدته أرواحهم.

الإفراط والتفريط كلاهما يضرب بمعوله وينخر في قوامنا كالجرذان.. وليدٌ آخر لا يعرف لم وكيف وأين ومتى ولد؟!

كما (يُزغط) المصريون أوزاتهم حتى يصبح حساؤها دسماً بعد طهيها دون أن تكون لها إرادة لتذوق ما تجرعته.. جرعنا كره الآخر مذ كنا براعم لا نعرف للكره باباً ولا سبيلاً.. لو لم تكن الابتسامة ولين الطبع ما شرف الربانيون بحمل الدين على الأعتاق لا على الأعناق.. يمنحون الأرض السلام.. وما الإسلام إلا السلام.

عزيزي العربي.. أيها القابع أمام الفوهة.. يا وليد الأرحام المظلمة، وقد كانت شموساً.. إن مشكلتك تكمن في توقف النمو الفكري لديك في مرحلة من مراحل عمرك الفكري بحيث لا تكون قادراً على مجارات الواقع وأزماته وفهم معطياته.. إنك ترغب عن فتح نوافذك خوفاً ورهبة مما قد تحمله نسائم الصباح حتى إنك تخشى على ستائرك من الرقص.. كل شيء جامد لديك.. كجلمود صخر حطه السيل من عل.. أو ككرة الثلج التي يتقاذفها الصبية فتتكسر إلى جزيئات جامدة.. ولولا الواقع المحتوم ونزرا من الرحمة والعناية لما سالت ماء فوق الأزهار..

إن التاريخ كائن عضوي يلفظ عنه جلدته عند تعاقب الأيام.. هو في حقيقته ماض وتراث وحكايات وأساطير وسنن.. لكنه يظل فكراً ملهماً متى ما أحسن الإنسان قراءته.. لذلك كان البُعد التاريخي والفقه بمراميه أجل ما يمكن إدراكه.. الجهل به بَذر في أرحامنا فكراً متشدقا عقيماً.

لا تكمن المشكلة عن هذا الحد فحسب.. فالإفراط والتفريط كلاهما يضرب بمعوله وينخر في قوامنا كالجرذان.. وليدٌ آخر لا يعرف لم وكيف وأين ومتى ولد؟! يمكن لي أن أطلق عليه -إذا صح التعبير- بخرافة (الزومبي) جسد بلا روح.. خطوات متعثرة بلا هدى.. خاوٍ تماماً عن أي مقومات من مقومات الحياة.. ذبلت أغصانه وتساقطت أوراقه.. ذلك الكائن الذي ما زالت هوليوود تسلط الضوء عليه حديثا في أفلامها منذ سنين خلت.. التغريب والحرب الفكرية جعلت من تلك المسوخ حقيقة.. أخبرني والدي أن ذاك العجين الذي يعجنوه في أفلامهم سينضج خبزاً يوماً ما!
وليدان بذرهما الجهل وتمخض التغريب عنهما والعولمة.. ما كل سوداء تمرة.. ولا كل بيضاء شحمه.

تحية وسلاماً لملهم لم تخدعه الشعارات ولا المظاهر.. لم يذبح روحه يوما على نهدي بغي.. ولم يطأطئ روحه تحت العمائم.

أنا العربي.. أنا الكادح على قارعة الطريق.. أنا من يقتات فتات الأعاجم.. أنا العمائم والطيالس.. أنا الثور الأبيض.. أنا نهدان في صدر راقصة ورصاصتان في صدر طفلة.. أنا رب الشويهة والبعير.

لست متشائماً.. لكن طفلا حلبياً مات الدمع في عينيه واسودت الدنيا في وجهه أحيا مواتاً.. إن شعوبنا العربية لا تزال تغط في وحل الصراعات الطائفية وتنشغل بجمع كفافها ولقمة عيشها! وفيها ما فيها من بذور النور..

تحية وسلاماً لأولئك الذين احترقت ظواهرهم بجحيم الحرب لكن بواطنهم تسبح في جنة عرضها السماوات والأرض..
تحية وسلاماً لأولئك البواسل الذين شيدوا للإنسانية في قلوبهم صرحاً يحفون به بسمة وديعة لطفلة أن تتلاشى ..
تحية وسلاماً لحمامات الحب والسلام .. من حلقوا عالياً عن مفازات الكره وحطوا حيث تحط الطيور ..
تحية وسلاماً لملهم لم تخدعه الشعارات ولا المظاهر.. لم يذبح روحه يوما على نهدي بغي.. ولم يطأطئ روحه تحت العمائم..

"تحيتهم يوم يلقونه سلاماً".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.