شعار قسم مدونات

طوفان القهر البشري.. وعولمة الجرح السوري

ATTENTION EDITORS - VISUAL COVERAGE OF SCENES OF DEATH Russian Ambassador to Turkey Andrei Karlov lies on the ground after he was shot by unidentified man at an art gallery in Ankara, Turkey, December 19, 2016. Hasim Kilic/Hurriyet via REUTERS ATTENTION EDITORS - THIS PICTURE WAS PROVIDED BY A THIRD PARTY. FOR EDITORIAL USE ONLY. NO RESALES. NO ARCHIVE. TURKEY OUT. NO COMMERCIAL OR EDITORIAL SALES IN TURKEY.

مجدداً، نستشعر سخونة النار السورية وامتدادها لتحرق المنطقة، وكأنها لعنة الدماء، تلاحق كل الجميع، أو رمال متحركة لا مفر من الغرق بها، ولا منجد منها. اختلال الموازين، وسلطة المصالح على المبادئ، صوت الباطل يعلو فوق صرخات الحق واستجداءات الإنسانية، آلة القوة وسلطة الوحشية التي دكت كل شيء، حتى بات العاقل منا، لا ينفصل عن إحساسه بالحياة وسط غابة من البشر فاقوا بوحشيتهم وحوش الغابات ، بشر تخجل شياطين الأرض منهم.
هو ثمن باهظ يدفعه جيل خرج من ظلمة الاستبداد إلى طريق حرية طويل ومفتوح على المخاطر، معبد بالشوك والآلام والجراح، جيل أيقن معنى حياته بحلاوة موته في سبيل مبادئه، هارباً من مرارة حياة ليس فيها عزة لتؤخذ عنوة وتسلب من عيون مغتصبيها.

مولود ميرت آلتين تاش، وآلتين تاش هنا كما راق لي ترجمتها إلى العربية مجازاً ولا أعلم إن كنت على صواب لغوي أم مخطئة، يعني الحجر الذهبي، حجر ذهبي عادل خمس رصاصات قتلت السفير الروسي في أنقرة، في افتتاح معرض فني كان عنوانه.. روسيا في عيون الأتراك.

الشعب الغاضب الذي يحتقن بداخله غضب الدنيا قهراً على صور القتل والوحشية التي يعيشها أقرانه ويعايشها بقلبه وجوارحه أكبر من طوفان بحر.. وأكبر من أعراف دولية

وبعيداً عن الخوض في تفاصيل الحادث وتداعياته السياسية، أو تحليل القراءات المتناقضة والمتضاربة لأنه ما زال من المبكر الجزم بتحليل معين، لذا سنأخذ الأمر من أكثر الزوايا بساطة بالتحليل، مبحرين في عمق الجوهر الإنساني ، لنتساءل ما الذي يوقف الطوفان الشعبي نحو تحقيق العدالة التي عجز عنها المكلفون بتنفيذها؟!
لا أخفي أن المقطع المصور الذي أظهر عملية الاغتيال، والعبارات التي رددها منفذ العملية، كان لها أثر بإحداث شيء ما في قلبي، هز شعوري الوجداني، وأحيا قهراً في نفسي لم يمت.. قهرٌ تعولم على امتداد خارطتنا التي لم تعرف منذ زمن إلا معنى القهر، وأخذني بالتفكير إلى ما بعد هذا الطوفان، هذا الاحتقان الذي ينفس انتقاماً لا متناهٍ.
يقال إننا في العالم الثالث، مبرمجون فقط على رد الفعل، رد الفعل المجنون، الطائش، غير المحسوب، رد فعل عاطفي ساذج، يسعد بنشوة الانتقام، ولا يبصر مخاطره المستقبلية. فهل جميع من فرحوا بمقتل السفير الروسي هم سذج مجرمون؟ إن محاولة التركيز على حادثة الاغتيال من منظور العمل المنظم، المدبر، ذي الأبعاد السياسية التآمرية، مع إغفال الدوافع الفردية للنفس البشرية التي هي ابنة المحيط، وانبثاق عنه، انتقاص من قيمة الشعور الإنساني، وتبلد في الطرح والتفسير.
فعندما قامت جميع الفلسفات السياسية بدراسة ما يجب أن يكون عليه المجتمع، والحالة السياسية، جاءت انطلاقاً من تفسير الحالة الطبيعية للنفس البشرية بالمرتبة الأولى، ثم وضعت نظرياتها واستمدت قوانينها من منظومة هذه النفس، التي فيها الخير وفيها الشر، والتي تنطلق في الحياة عملاً بدوافع معينة، ليست بالضرورة أن تكون خيراً مطلقاً، فالألم لا يمكن أن يولد خيراً، وزراعة الشوك لا يمكن بالمطلق أن تنبت ورداً، وانتظار الياسمين سخف في أرض تُروى بماء النار.
لا ننكر أن القوى العالمية، حاولت استغلال هذه الدوافع، وعملت على تغذيتها، حيث استفادت من حالة الشعور المدقع بالظلم والقهر، في تحقيق مصالحها السياسية، لذا فإن الخوض في انتقاد الدوافع النفسية، بمعزل عن مسبباتها، واستغلالها في الطريق الذي يخدم مصالحنا وأهدافنا، لن يراكم إلا عنفاً أكبر، ولن يسبب إلا حشداً طوفانياً أعلى، كما أن المبالغة في النداء بتحريم الفعل، لنهي الإسلام عن قتل السفراء والرسل، ترف ديني، والأولى من ذلك أن يعمل هؤلاء الدعاء المتفقهون دينياً، على تجديد خطابهم الذي كان سبباً في تطرف فئة شبابية سئمت خطاب "إبر البنج" الذي لم يعد يؤتي أكله بعد أن دنست حرمات المسلمين ودماؤهم وأعراضهم.
ويبقى على عاتق السياسيين، أن يراجعوا استراتيجياتهم وحساباتهم، ويأخذوا بالحسبان عواطف شعوبهم، لعلاج هذه الظاهرة التي إذا ما استمرت في التغذي على دماء المظلومين، وصرخات الأطفال، ودموع المشردين، ستكون طوفاناً لن يسلم أحد من الغرق في بحره، فالشعب الغاضب الذي يحتقن بداخله غضب الدنيا قهراً على صور القتل والوحشية التي يعيشها أقرانه ويعايشها بقلبه وجوارحه أكبر من طوفان بحر.. وأكبر من أعراف دولية.. وأكبر من مصالح سياسية واستراتيجية.
لذا فإننا نعود مجدداً لنسأل، ما الذي يوقف طوفان قهر بشري؟

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.