شعار قسم مدونات

عن "جماعة" الوهم المريح

blogs - man

لم تكن تلك المرة الأولى التي يسألني فيها أحدهم عن سبب نشري المتكرر على صفحتي الشخصية على الفيسبوك لصور الدمار والموت في سوريا، وليست أيضا المرة الأولى التي أجيب فيها ببساطة: "لأن هذا هو الواقع!".

 لكن إلحاح سائلي هذه المرة وخوضه في تفاصيل "التداعيات النفسية الخطيرة" التي ستجرها تلك الصور الأليمة على حياتي، هو ما جعلني أقف عند الموضوع وقفة احتجاجية.

ما يقلقني فعلا هو حالة الانفصال عن الواقع والعيش بالخيال بحجة الحفاظ على الطاقة الإيجابية وبالتالي تبنّي خيار الوهم المريح.

أخبرني هذا الشخص بتعاطف بالغ أن هناك قانون حسي نفسي خطير يسمى "قانون الجذب" والذي يقوم على فرضية أن قوة أفكار المرء لها خاصية جذب كبيرة وأن ما تركز عليه بتفكيرك يزداد ويكبر فكلما فكرت بأفكار ومواقف سلبية اجتذبتها إليك، وبناءً عليه فإن صور الموت والخراب ستجلب بالضرورة الحزن والألم لحياتي وأنه يجب عليّ أن أرفق بنفسي ولا أستصغر خطورة الموضوع.

ثم استطرد باستفاضة متحدثا عن حاجتنا في هذه الظروف لخلق واقع جميل حتى وإن كان من نسج خيالنا كي نحيط أنفسنا بالطاقة الإيجابية التي لن نستطيع من غيرها العمل والإنتاج، ثم ختم حديثه بالجملة التي سمعناها كثيرا "نحن لا نملك لهم سوى الدعاء فلِم نحمّل أنفسنا ما لا نطيقه".

كنت قد قرأت مرةً على صفحة أحد أشهر مدربي الطاقة الحيوية في الوطن العربي منشوراً يتحدث فيه عن الحرب النفسية، التي تُمارس على عقول شبابنا المتمثلة بدفعهم على التركيز على مشاهد الموت والدمار في عقولهم، وما لذلك من أثر خطير على ازدياد الموت والدمار في الواقع.

ثم اقترح بسلاسة شديدة أن نستبدل تلك الصور المؤلمة بصور مدينة حلب أيام العز وأن نطبع هذه الصورة الذهنية الإيجابية على عقلنا اللاواعي، فيبدأ مفعول السحر بأن يتغير العقل الجمعي العربي من تشاؤمي انبطاحي إلى تفاؤلي قادر على العمل والإنتاج.

لا يمكن لعاقل أن يدّعي أن مجرد نشر صور ومشاهد ما يحدث في سوريا سيكون له تأثير مباشر أو حتى غير مباشر على تغيير مجرى الأحداث، فكلنا يعلم أن العمل على أرض الواقع والمساعدة بشتى الوسائل الممكنة وفي شتى المجالات هو الأساس والمقياس.

ولكن متى كان نقل الواقع وتصوير الحقيقة يتعارض مع العمل؟ فإن لم ننقل نحن الصورة من سيفعل! ثم متى كان الألم يوقف العمل؟ والدليل هو ملايين السوريين المنكوبين الذين هربوا من ويلات الموت ومع كل ذلك يعملون ويبدعون في ظروف صعبة وبلاد غريبة.

أنا لا أطالب الجميع بنشر صور الأشلاء والدماء، وأتفهم أن كثيرا من الناس لا تحتمل ذلك، لكن ما يقلقني فعلا هو حالة الانفصال عن الواقع والعيش بالخيال بحجة الحفاظ على الطاقة الإيجابية وبالتالي تبنّي خيار الوهم المريح بديلا للواقع المر.

ما يقلقني فعلا هو تسويق الوهم على أنه الخيار الأنسب وتخدير العقول تحت مسميات علمية على وقع كلمات معروف الرصافي "ناموا ولا تستيقظوا ما فاز إلا النوّمُ". هنا أسأل نفسي وأسألكم هل تفعيل الخيال والعيش في مطاردة الطاقة الإيجابية هو سبب وجود طاقة الصمود المذهلة عند من يتعرضون للموت والقصف يوميا في سوريا وفلسطين والعراق، أم هو الإيمان بالله والتوكل عليه؟

إن الاستخفاف بعقول الجيل الجديد ودفعه للاعتقاد بأن تركيزه الذهني على الثراء كافٍ لأن يجعله ثريا وأن قوة عقله اللاواعي هي التي ستجعل الكون كله يتآمر لتحقيق هدفه، هو في الحقيقة تكريس لمفهوم التواكل ولكن بثوب عصري.

لا أعني هنا أن قوانين الطاقة هي محض افتراء ولكنّ تحميل هذه القوانين فوق طاقتها وإساءة تطبيقها على الأرض ثم محاولة أسلمتها وربطها بالدين هو أمر خطير للغاية.

إن الآية الكريمة التي يستند إليها معظم مدربي علوم الطاقة "إن الله لا يغير ما بقومٍ حتى يغيروا ما بأنفسهم" والتي يتم ربطها عادةً بتغيير الأفكار ثم جلب الهدف بقوة التفكير الإيجابي، هي في الحقيقة دعوة لجلب أنفسنا إلى الهدف عن طريق العمل والسعي وربط النية دائما بالله.

إن لم ندرك جيدا أن المجتمعات لن تنهض من كبوتها وتتقدم إلا وفقط بقوة الجماعة، فسنجد أنفسنا نشتري التخاذل كما اشترينا الوهم.

إن تغيير العقل الجمعي العربي نحو الأفضل يكون فقط بأن نهتم بما يحقق الخير لمجتمعنا وليس بما يحقق ذواتنا بغض النظر عن المجتمع وهمومه، عندها فقط سنكون على قلب رجل واحد وسيبدأ الواقع بالتغيّر من حولنا.

أما الهدف من الدعاء مع أهميته، فهو ليس تغيير الكون ليحقق أحلامي ويخدم رغباتي، بل هو طلب المعونة والمؤازرة من الذات الإلهية لتغيير الذات الإنسانية نحو الأفضل ومساعدتها على المضي في سبيل الخير.

إن علوم الطاقة وتطوير الذات المنتشرة هذه الأيام كالنار في الهشيم والتي يُقبل عليها أغلبية الجيل الجديد، ويعتبرونها الطريق المختصر لإيصالهم لأحلامهم، هي في الحقيقة الوصفة السريعة للنرجسية في حال النجاح وللإحباط القاتل في حال الفشل، والتي تقوم بشكل رئيسي على الاعتماد الكامل على الفرد وعلى إيقاظ قواه الكامنة ثم فصله عن المنظومة المجتمعية.

إن لم ندرك جيدا أن المجتمعات لن تنهض من كبوتها وتتقدم إلا وفقط بقوة الجماعة، فسنجد أنفسنا نشتري التخاذل كما اشترينا الوهم ثم نبرره كما برره من قبلنا بنو إسرائيل لنبيهم موسى "اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.