شعار قسم مدونات

وظيفةٌ أم استعباد؟

blogs-عن عمل

إذا كنت من الأشخاص الذين لا يستطيعون تحمل فكرة كونهم موظفين ولُقبت بـ "مهمّل أو متكبّر"، وإذا كنت أيضاً من الأشخاص الطموحين ولم تجد وظيفة أو لم تستطع الاستمرار بها- واتهمك المجتمع "بعاطل عن العمل"؛ فهنيئاً لك أولاً وإليك لماذا ثانياً.
 

تفكرت يوماً بـ لماذا الأغلبية تبحث عن الوظيفة وكأنها الهدف الأعظم؟ بل وأصبح الهدف الأول والأساسي للتعليم العام والعالي هو تحضيرنا للوظائف!
 

الاستعباد هنا قتل الحريات التي ترغب بامتلاكها، ولكنّك مُنِعت عنها، فكم طاقات وعقول عظيمة قيدت وطُلب منها "بصمة الصباح" و "بصمة المساء" ونموذج الإجازة وسلمت نموذج الإنذار والتنبيه!

فاستنتجت الآتي:
كأجيال عربية تعلّمنا منذ الصغر أن أنجح شخص من جيل آبائنا هو من اتجه للعمل لحساب الشركات الخاصة وتمرد على واقع العمل في القطاع الحكومي فتَرانا نتبع نهجه كبطل مع العلم أن المجتمع هاجمه آنذاك، ولو تابعنا حياة الجيل الأسبق والتي كان يعيشها آباؤنا سنجد أحلامهم كانت تدور حول تحقيق ما حققه أنجح شخص في جيل آبائهم "اجدادنا" والذي كان يعمل لصالح المؤسسات الحكومية متحدياً ومتمرداً على واقع العمل في الحرف اليدوية، وهكذا إلى أن نصل لتلك المرحلة التي كان المتمرد فيها هو من ترك الزراعة أو تربية المواشي واتجه إلى العمل لصالح الجيش وتختلف القصص بحسب شكل حياة المجتمع ومتطلباته.
 

لا افرق بين هذا وذلك فالجميع ناجحُ بموقعه وبما تتطلب منه الحياة.. ولكن الشاهد هنا هو أن العنصر المشترَك أعلاه هو "هجوم المجتمع وانتقاده لمن يتمرد" بالرغم من كونهم أصبحوا قدوة لمن بعدهم بإثباتهم عكس ما توقعه الآخرون إلى أن وصلنا إلى ما يحدث في يومنا هذا والذي سأتحدث عنه الآن..
 

يعيش جيل الثمانينات في قصة أبطالها موظفو القطاع الخاص فترى الجميع يحاول السير على خطاهم؛ إلا أن هناك مجموعة من هذه الفئة تمردت على المجتمع وتركوا البحث عن الوظيفة وبدأوا فيما يسمى الآن "ريادة الأعمال" إلى أن وصلوا الآن إلى ما يسمى بـ "النظم الإيكولوجية" مثل "أبطال تطبيق كريم وموقع مكتوب سابقاً وجملون وطقس العرب ومسموع وبنكوفا" وغيرهم من أصحاب قصص النّجاحات العربية، وما يجمع معظمهم بأنهم اشخاص اختارهم القدر أحراراً رغماً عنهم فلم يجدوا وظيفة أو طردوا منها وبذلك أُجبِروا أن يسلكوا طريقاً مختلفاً فوجدوا ما وجدوه الآن.
 

لمثل هؤلاء الأشخاص فقط تعتبر الوظيفة استعباداً- فالاستعباد هنا قتل الحريات التي ترغب بامتلاكها ولكنّك مُنِعت عنها، فكم من طاقات وعقول عظيمة قيدت وطلب منها "بصمة الصباح" و "بصمة المساء" ونموذج الإجازة وسلمت نموذج الإنذار والتنبيهّ! فكم من فتاة دفنت مواهبها لأن أهلها لم يتفهموا أهمية وجودها كبطلة للأجيال القادمة، وكم من رجل كان من الممكن أن يكون بطلاً أيضا ولكن المجتمع أجبره على التزامات هو بغنى عنها فغدت فرصة أن يكون بطلاً بعيدة جداً.
 

إن لم يشأ القدر بدءَ حياتك حراً فلا بأس بالوظيفة مؤقتاً بالتزامن مع السعي لتحقيق الهدف، فالوظيفة أحياناً تكسبنا العديد من المهارات والخبرات واحياناً أخرى توصلك لمكان لا يقل أهمية عن أن تكون صاحب عمل حر بوصولك لما أسميه "بالموظف الذي لا يمكن الاستغناء عنه" فتحتل مناصب استراتيجية دائماً، لذا نصيحتي لك عندها أن تتصرف كموظف ولكن فكر كقائد.
 

لا أنسى كلمات ذلك الرجل الغني قبل أربعة عشر عاماً لي حين اقترحت على ابنه العمل معي موزعاً للجرائد. رفض وقال "ابتلاك الله بالفقر فأنت مضطر للعمل للغير"
– قلت "أنا اتعلم الالتزام"، فأجاب "وتفقد مهارة القيادة بإجبار نفسك بالالتزام بقوانين لا تفهمها".
– قلت غاضباً "أتحمل مسؤولية نفسي وأنا فخورٌ بذلك"، أجاب "سيكون ابني مسؤولاً عن مئة موظف في شركته التي سيرثها مني".
– قلت "ابنك لن يستطيع ذلك دون البدء من الصفر ويصعد السلم درجة درجة"، فأجاب "هل سمعت بملكٍ وظّف ابنه موظّف حكومة ثم أصبح مديراً لقسم فأميناً عاما وبعدها وزيراً وثم رئيساً للوزراء وانتهى بتعينه ملكاً".
– قلت "لا"، قال "رباه ملكاً فأصبح ملكاً، وأنت كذلك يا ولدي ربِّ نفسك حراً عظيماً فتعيش ذلك للأبد".
نظر إليّ نظرة حزن وندم وقال ما أقصده ب "ابتلاك الله بالفقر لذا أنت مجبر على طريق غير طريق ولدي" ورفع صوته قائلاً "سيحاسب الله ولدي على هذه النعمة إن تجاهلها وعاش عيشة الفقراء، يا ولدي تخلص من كل الأفكار التي ستَحُدُّ من قدراتك وطموحاتك والتي وضعها أشخاص لم يستطيعوا تغيير واقعهم، كن مثلي في المستقبل فتجعل حياة من بعدك أسهل".
 

لم تعجبني كلمة كن مثلي ولكنّني تمنّيتها! ختم كلامه بـ "اياك وان تكون ممن يؤمنون بأن الجنة للفقراء فقط"!

بالفعل- فقد قيل لنا "رحم الله امرئ عَرَف قدر نفسه" فلا تحلم يا صهيب أكبر من قدراتك! ولكنهم لم يقولوا لنا أن المقصود هنا أن رحمة الله تتنزل على من يعرف عظمة قدراته ووجوده في الدنيا، فالقدر برأيي هو ما نستطيع فعله إذ حاولنا وليس ما نحن عليه الآن.
 

عُلِّمنا "لا يكلف الله نفساً إلّا وسعها" فترجمت بلا تحزن لعدم قدرتك يا صهيب إن أخفقت فهذه قدراتك وليس الجميع يستطيع، لم يعلمونا بأن "السعة" بأيدنا ونحن من نقرر حجمها بمشيئة الله، فحجم التكليف من الله لك مبنيٌ على قدر اتساع دائرة مسؤوليتك فلن تجني شرف نهضة الأمة إن كنت شخصاً يرى نفسه يعيش ليأكل ويتزوج ويموت، ولن تجني شرف لقب بطل الأجيال القادمة إلا بوضعك لنفسك في دائرة متسعة الأهداف أثقل حملا.
 

أمعن النظر في القول الشائع "إن الذكي يتعلم من أخطاء نفسه، أما الحكيم فيتعلم من أخطاء الآخرين".

تعلمنا بأن التفوق الأكاديمي هو من سيوفر وظيفة.. وهذه حقيقة فالشركات الخاصة كل ما تحتاجه شخصاً لديه قدرة على الالتزام- لكن لم يهتموا بتعليمنا كيف نكون أذكياء ومبدعين أو حتى مستقلين فكريا، فالعالم اليوم بحاجة إلى أذكياء وموهوبين أكثر من متفوقين. "أنصح بقراءة مدونتي بعنوان "ما لا تعلمه الجامعات".
 

لم ينتهِ الحديث هنا فيجب أن نتفكر بـ لماذا النسبة الأكبر من أصحاب الهمم الذين يتجهون للوظائف مؤقتاً فتصبح دائمة؟ بل ومنهم من يصل إلى قناعة وإيمان بأن الوظيفة هي الأمان، كيف تعيش موظفاً في عقلية شخص عظيم حر؟ سأجيب عنها في التدوينة القادمة بعنوان "وظيفةٌ أم استعباد2"
 

أما للآن.. أمعن النظر في القول الشائع "إن الذكي يتعلم من أخطاء نفسه، أما الحكيم فيتعلم من أخطاء الآخرين"، فالذكي هو من يفتح الطريق ليتعلم الآخرون من أخطائه؛ لذا فنحن بحاجة إلى المزيد من هذا النوع فلا نستطيع العيش أو التطور بدونهم؛ فكن كذلك!
 

كن أنت الذي لو علمت الأمة بما يمكن أن تقدمه لما سمحت لك أن تضيع ثماني ساعات يومياً لمهام يمكن لأي شخص آخر أن يقوم بها، وهذا ما يفعله العظماء من الآباء مع أبناءهم والرجال مع زوجاتهم.. بالحقيقة يجدر بي القول هنا أن العالم الغربي يحسدنا على التماسك الاسري في بيوتنا ويحسد زوجاتنا لأن العادة السائدة كانت هي أن يتحمل الرجل مسؤولية المأكل والمشرب والمسكن وهي تسخر دماغها لخدمة الأمة لتكون قيادية ذات فكر يرفع شأن الأمة خطوة خطوة مع الزوج، ولكن بغياب رجل يعلم ذلك تحولت حياتها إلى ظلم، وأصبحن يطالبن بدرجة أقل بالحياة ولكن أفضل تحت عنوان المساواة.. فيا ليت رجال الأمة يعلمون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.