شعار قسم مدونات

موسم حصاد الأطفال

blogs- الأطفال

بإحدى دُور رعاية الطُّفولة حيث يجلس أولئك الأطفال الذين باتوا وأصبحوا بلا أمّ أو أب، أعمارهم فقط أيام وأسابيع قلائل، حُرموا بقية حياتهم من كلماتٍ بسيطة تجري على ألسنتنا كلّ يوم "بابا"، "ماما"، "خالْتُو"، "جِدُّو". أطفال يُطلق عليهم مجهولو الأبوين، فاقدو الرعاية، فاقدو السَّنَد الذي يتَّكِلون عليه، مجهولو النَّسب الذي ينتمون إليه، أو بعربيةٍ فصيحة يُسمّون "لُقَطاء"، أو بعباراتٍ أخرى قاسية وكثيراً ما نستعملها، نُطلق عليهم "أبناء الحرام" أو "أبناء الزنا".. تعدَّدت الأسماء والمعاناة واحدة.
 

تملأ صرَخاتهم المكان باحثين عن إجابةٍ لمستقبلٍ مجهول لا أحد يعلمه سوى الذي خَلَقَهم، باحثين عن إجابةٍ لسؤالٍ يدور في أذهانهم كل دقيقة، "أين أمي؟ أين أبي؟". في المرة الأولى التي ستزور فيها تلك الدُّور وتُشَاهد أولئك الأطفال، ستَنهزم أمام دموع عينيك مهما حاولت، وسَيَسْري الألم في دمِك أيْنَ جَرَى، وستهاجمك الحِيرة من كلّ صَوْب.
 

"رأس السّنة"، حيث تملأ الاحتفالات المدن وتُنْثَر البُذور المحرَّمة "النُّطَف" في تلك الأراضي الخصبة "الأرحام"، وبعد تسعة أشهر من الحمْل يكون الزرع قد أيْنَع وموسم الحصاد قد بدأ.

خارج تلك الدُّور يوجد أطفالٌ آخرون في تلك الطُّرقات المُظْلمة، تمَّ رميهم هناك، ينتظرون من يعثر عليهم، ويلتقطهم منها قبل أن تطالَهم يد الموت، جوعاً أو عطشاً أو مرضاً، أو ربما على يد بعض القطط والكلاب الضَّالة. وآخرون يُقْتلون "عمداً" فور خروجهم من أرحامهم، والسبب خوفاً من فضيحة مُجَلْجِلَة تهُزُّ عرش الأسرة. وعن كيفية قَتْلِهم لا تسأل، فما آلمها! ومن ظُلمة قلوب من قَتَلُوهم لا تستعجب، فما أظلمها! لو أنَّ لهم قلوب!
 

وبلا ذنبٍ اقترفه ذلك الصّغير أو تلك الصّغيرة يكون هذا مصيره، إحدى ثلاث أحلاها مُرّ: قتلٌ، أو رميٌ ثم موت، أو رميٌ ثم دارٌ تؤويه ليجتمع هو ورفاقه هناك، ويبدؤوا قصة معاناتهم سوياً، بعد أن رَضعوا وارْتَوَوْا من ثدي الحرمان. تتزايد أعدادُهم وتنخفض بين الفترة والأخرى إلاَّ في أشهرٍ معلومات، يكثر ذلك العدد ليبلُغ "ثلاثة أضعاف" ما يكون في العادة. هي الفترة الممتدَّة من الشهر التاسع سبتمبر، مروراً بالشهر العاشر أكتوبر، وانتهاءً بالشهر الحادي عشر نوفمبر من كل عام، أو دعونا نطلق عليها "موسم حصاد الأطفال".
 

ترى ما السر في هذه الأشهر الثلاث، ما الذي ميَّزَها عن غيرها من الشهور والأيام لتكون موسم الحصاد؟! لتعرف الإجابة عُدْ بالزمن تسعة أشهرٍ إلى الوراء إلى زمن الزراعة، لتجد موسميْن عظيميْن لزراعة البذور المحرَّمة، بل طامّتين كبيرتين، وإذا عُرف السبب بَطُل العجب!
 

الموسم الزراعيّ الأول نُسمِّيه "رأس السّنة"، حيث تملأ الاحتفالات المدن وتُنْثَر البُذور المحرَّمة "النُّطَف" في تلك الأراضي الخصبة "الأرحام"، وبعد تسعة أشهر من الحمْل -إذا لم يتم الإجهاض- يكون الزرع قد أيْنَع وموسم الحصاد قد بدأ. وبعد الفراغ من رأس السنة، يُقْبل علينا موسم الزراعة الثاني "عيد الحب" أو ما يعرف بـ "الفَالَنْتايْن"، ناثراً هو الآخر بذوره المحرمة. ويا له من حبّ ذاك الذي سيعيشه ذاك الصَّغير بعيداً عن حُضْن أمِّه ورعاية أبيه!
 

وبنهاية موسم الحصاد تكون التجهيزات والإعدادات لموسم زراعةٍ جديد قد بدأت، واليوم الأول في السنة الميلادية الجديدة قد أقْبَل، وعيد الحب قد أطلَّ برأسه الزَّاهي وثوبه الأحمر الجذَّاب، مخفياً خلفهُ ذاك الحصاد المرّ. دورةٌ من الإنتاج والحصاد تعْقُبُها دورةٌ أخرى، والعدَّاد مستمر والإنتاج في زيادة، والمعاناة تتناسب طردياًّ معها.
 

مشكلتنا أننا نتعامل مع تلك الاحتفالات بظاهرها الخادع وننسى نتيجتها القاسية التي تمثَّلت في أطفالٍ كالغُصْن المقطوع من شجرة.

الضحيَّة الثانية في هذه المعاناة هي الفتاة التي غالباً ما تكون قاصِرة تمَّ خداعُها بكلام الحُب الزَّائف المُزخْرف، وتُصْبح بعدها بين مُفْتَرق طريقيْن، أن تُعرِّض نفْسَها لخطر الإجهاض وعواقبه إن هي أقدمت عليه، أو تستمر في الحمل وتُعرِّض نفسها لخطر الفضيحة وعواقبها التي قد تصل إلى حد قَتْلها هي وطفلها من قبل أقربائها. وقليلاتٌ هنّ من يتحَدَّيْن المُجْتمع ويحْتَفِظْن بأبنائهنّ.
 

الأمر أكبر من أن يُخْتصر في مقال، أو أن يُكتب في مُدوَّنة، أو أن يُنشر في الصُّحف والمجلَّات، أو أن يُذاع في الإذاعات والقنوات.. الأمر يتعلق بمجتمع بأكمله، هو جزء من المشكلة ولا بد أن يكون جزءاً من الحل. مشكلتنا أنَّنا كمجتمع نُنْكر ذلك الجانب ونتجاهله، وربما ادَّعى البعض عدم وجود مثل هؤلاء الأطفال الرُّضع، وربما وصل الحال بآخرين أن قالوا: "هم لم ليسوا من جنسنا أو قبيلتنا، هؤلاء بلا شك من تلك القبيلة أو ذاك المكان"! وكأنّ الإنسانية تتجزأ، والرحمة تكون حسب لونك أو جنسك أو مكان ميلادك!
 

مشكلتنا أننا نتعامل مع تلك الاحتفالات بظاهرها الخادع وننسى نتيجتها القاسية التي تمثَّلت في أطفالٍ كالغُصْن المقطوع من شجرة، ولعلنا نعلم أن ديننا لم يُحرِّم شيئاً عبثاً. يا صديقي.. زُرْ دار الأطفال مجهولي الأبوين مرة وشاهد تلك الوجوه البريئة، واستمع لتلك الصّرخات الخارجة من بين تلك الشِّفاه التي حُرمَت بقيَّة حياتها من "قُبْلة الأم" الحانية، وامسح رأسهم طفلاً طفلا.ً. صاروا تحت رحمتك ورحمة الخيِّرين.. وقَبْلي وقَبْلَك "فاللَّهُ خَيْرٌ حَافظاً وهو أرحمُ الرَّاحِمِين"، واذهب ْوقَبِّل تلك التي حملتك تسعةَ أشْهر.. وذاك الذي رعاك مُنْذُ الصِّغَر.. وإن كان الموتُ قد سبقك إليهما.. فدعوةٌ بظهر الغيب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.