شعار قسم مدونات

غزة.. ما بين الواقع والخيال

A Palestinian man fishes at sunset at a beach off Gaza City, Gaza Strip, 23 October 2016

هي ليست بمدينة "جوثام" التي يتعايش فيها باتمان وسوبرمان في أفلامهم ورواياتهم وليست بمدينة "سايلنت هايل" التي يقطن فيها المتوحشون الغامضون، بل هي المدينة الهاشمية التي تراكمت بها سلسلة من الحروب والحصارات المستمر، وهي مجرد بقعة على كوكب الأرض وتقاس بالنانو.

غزة وقع بها أحداث في نطاق تاريخها لم يستطع الصحفيين والمحللين جزم الكتابة فيها ولا حتى الكلام عنها، كل ذلك لأنهم لم يصدقوا ما رأت أعينهم من بشاعة حروب مُخلفتاً خراباً وجهلاً، ولم تغيب العيون على مرض الفقر الذي امتلك ناسها، وكيفما إنها امتلكت جميع مدلولات الموت البطيء! ليس لها حكايةً جميلة كحكايات باريس وبرلين، وتمارس أحلامها لتطمح وتصبح أعظم من "دبي وسنغافورة"، ولما لا تطمح؟ فهي التي سكنها الفرعوني والبيزنطي والروماني والإغريقي والعربي وغيرهم من أصحاب الحضارات العظمى، كما أنها صاحبة تلك الحُقب الصراعية التي لا تُعد معاركها ولا غزواتها ولا حروبها.

أظن أن عوامل الموت السريع تحيط بالإنسان الغزي، في كل لحظة وفى كل مكان من فقر وبطالة وإغلاق معابر وحروب دورية، ومع ذلك يتحقق الخيال ويتعايش هذا الشعب رغم كل ما يحدث.

هذه المقال لا يخاطب عاطفةً ولا عقل؛ لأن عوامل غزة ليست بفرضيات لنبني بها نظريات، كما أنها ليست بمحض صدفةً، بل هذا هو واقع غزة الحديثة والقديمة، ويدفع ثمنها شبابً عاشوا ثلاثة حروبٌ دامية ومنهم من نجى ومنهم من قُتل ومنهم على كراسي متحركة.

المقال لن يُطرح فيه تقارير إخبارية او كشفاً للفساد أو تفاصيل للمؤامرات أو توصيات لحلول ما، ولن تُقاس غزة من حيث سكانها ومساحتها، ستُقاس من حيث أبعادها التي اُنتجت بانعكاسات الحروب وتخلف مسؤوليها، فهدفنا مجاوبة كل التساؤلات المبعثرة عن واقع غزة.
 

البعد الثقافي:

قبل ان نبدأ في هذا البعد، سأبد بتعريف عدة مصطلحات، لكي نستطيع هضم هذا البعد. الثقافة: هي ما صنعته يد الإنسان وعقله من مظاهر في البيئة الاجتماعية، ولها عناصر مادية كالسكن والملبس، وعناصر لامادية كالمعتقدات والاتجاهات والعادات.

تلك المدينة كانت سمتها الثقافية حول اهتمام الجار بجاره، وحول عطاء الغني للمحتاج، فهي مجرد بقعة صغيرة تكونت من تشرد لاجئين عام 1948 وكان قاسمهم "الزمكاني" المشترك "نرجع ع الدار".

مرت الأيام وبدأ المسلسل الحقيقي للدافع عن ذاك القاسم عبر انتفاضات وعمليات مقاومة، وفجأةً في نصف مسلسل التضحيات لأجل الوطن وحلم العودة، بدأ مرض الانتقال الإيديولوجي الخبيث، فتمت صناعة الأحزاب التي تريد تحرير فلسطين "الغامضة"، ومن هنا أصبحت البيئة الاجتماعية لدى الضفة الغربية وقطاع غزة خاصاً مُعقدة، لأن تلك الأحزاب لم تساوي بين سلطة الشعب وحرية الشعب.

فتحول أهالي قطاع غزة من الاهتمام والعطاء إلى التوجه الحزبي والفكري "الجاهل"، ومع الأسف كان التحول كثيف وأكثر نموذج دليلاً هو توزيع المساعدات الإنسانية على الشعب بهدف استقطابهم لحزبٍ ما.

وحالياً يتواجد في قطاع غزة 11 حزباً وكلٌ له أيدولوجيته الخاصة، وكل انتماء حزبي أنتج بداخله فتنة وصنع من تحرير دولة الحق إلى دولة الغموض.
 

البعد السياسي:
في عمليات السلام السياسية يتم اقتراح حلول للوضع الراهن والاشتراط بعدم الرجوع إلى الوضع سابق، لكن في غزة تتم معالج الأمر عقابياً على سكانها، خصوصاً عند عمليات حل الانقسام الفلسطيني والحروب المستمرة، فالعقاب يكون بتراكم الأزمات، كموت المرضى الذين يحتاجون إلى العلاج بالخارج نظراً للأوضاع الطبية لدينا، وانقطاع الكهرباء المستمر منذُ 10 سنوات، والحروب كالفصول أصبحت تتكرر كل 3 أعوام.

نموذج أهالي قطاع غزة كنموذج شعب المايا، يفرحون بشدة عند البدء بدورة جديدة من تقويمهم الخاصة والعيش مرة أخرى حسب معتقداتهم، ونحن نفرح بشدة عندما تنتهي الحرب. في النظم السياسي للدول يجب تواجد حكومة لفرض النظام وسن القوانين، لكن الانقسام صنع حكومتين، حكومة تحكم في غزة وحكومة تحكم في الضفة الغربية، وكل الانعكاسات تكون على شعب، فيزداد الفقير فقراً وتزداد البطالة نسباً وكله نتيجة المخاض السياسي العبثي.

البعد الأخلاقي:
لقد تحولت قيمة التسامح إلى الحقد والكراهية، وهذه مجرد قيمة واحدة فقط. استمرارية الحروب ونمو سلبياتها وتواجد حالة الانقسام، جعل الناس يدفعوا الثمن باهظاً، فأصبحت الأهالي في حالة غيبوبة مديدة، نتيجة انقلاب لمنظومة القيم الاجتماعية من الإيجابية إلى أقصى درجات السلبية فتحولت ثقافة الرفض التي يتمتع بها الفلسطينيين إلى ثقافة الخضوع والقبول بالعدمية واللاشيئية، وإلى إبراز المسؤول كالإله الذي يتحكم في الناس كأنهم فأران تجارب في قفصاً صغير.

فأصبحت ضمانة حاجة الإنسان وحقوقه ميتة حتى في تلك المساعدات الإنسانية التي تصل من أجلهم. غياب دور السلطات في عنصر التنمية البشرية جعل الناس محطمةً طالبةً من الموت بالقدوم لأننا ودعنا الأحلام والأمنيات والأخلاق.

 

أين تكمن مراحل التقدم في غزة؟ غزة تتقدم في الأرقام فحسب.
زيادة في رواتب المسؤولين (أعضاء المجلس التشريعي)، زيادة في نسبة البطالة، زيادة نسبة الطلاق، زيادة أعداد المسافرين، زيادة نسبة الخريجين، زيادة تأجيلات الإعمار، وغيرها من التبعيات..

دعونا نفصل بعضاً من الأمور، غزة يجب أن تدخل موسوعة جينيس في ضربها للأرقام القياسية على جميع الأصعدة، اذا أردنا فقط أن نمر سريعاً على بعض الزيادات التي حصلت في عام 2015، سنرى أن وحش البطالة افترس اكثر من 60 بالمئة من صفوف الشباب، لنسبة الاعلى في العالم لعام 2015، وبنسبة 40 بالمئة تحت خط الفقر وهذا يعنى موتاً من نوع اخر يهدد هذه النسبة، وفى طريقه للزحف لمن هم قريبون من خط الفقر.

غزة سبقت العالم من حيث منظور العيش والتعايش، إذ أنها حية في ظل وجود مؤثرات لديها تدل على نهايتها الحتمية.

إضافةً لنفس العام أن معدلات الطلاق ارتفعت في قطاع غزة حيث بلغ 3288 حالة طلاق أي ما يقارب حالتين كل ساعة واحدة بحكم أن المحاكم تعمل لـ 6 ساعات في اليوم الواحد، وترجع هذه الزيادة الصادمة إلى واحدة من أهم الأسباب وهى تدني الوضع الاقتصادي الذى يسببه الحصار الخانق وقلة فرص العمل وازدياد نسبة الفقر.

أما بالنسبة لمعبر رفح فكانت القشة التي قسمت ظهر البعير في غزة، فخلال عام 2015 تهالكت الزيادة في أعداد المسافرين فكانت هذه السنة اسوأ الأعوام على الإطلاق، حيث لم تتجاوز عدد ساعات العمل 120 ساعة، ولم يفتح المعبر سوى 19 يوما، لكل يوم 6 ساعات فقط، وفي كل يوم تخللتها فترات توقف عن العمل من الجانب المصري مع العلم أن هنالك اكثر من 15 الف مسافر على قوائم الانتظار ينتظرون طيلة العام للخروج من هذا المعبر الجهنمي.

أظن أن عوامل الموت السريع تحيط بالإنسان الغزي، في كل لحظة وفى كل مكان من فقر وبطالة وإغلاق معابر وحروب دورية، ومع ذلك يتحقق الخيال ويتعايش هذا الشعب رغم كل ما يحدث.
 

غزة لديها مقومات إيجابية وتقنيات تخلق من عَدم، ولكن بعد مدة قليلة من الزمن تُدفن، كما أنها سبقت العالم من حيث منظور العيش والتعايش، إذ أنها حية في ظل وجود مؤثرات لديها تدل على نهايتها الحتمية، وجعلت العالم يتحاكى قضية نهاية العالم بتعايشها، وهذا ما يستدل على أن غزة تعيش بين الواقع والخيال.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.