شعار قسم مدونات

دولة الغربان الفاضلة

blogs - Crow
ربما لم ير الكاتب مصطفى لطفي المنفلوطي، المجازر التي ارتكبتها الوحوش البشرية في القرن الواحد والعشرين، كهذه التي تحدث حاليا في سوريا والعراق وبورما، وكثير من بلدان العالم العربي والإسلامي، لكنه تحدث عن وحشية الإنسان في خاتمة قصته الوعل بكثير من الدقة والإحساس، حين ألصق به صفة الوحشية وحدهُ مُبرئا حيوانات البر والغاب، من صفة أُلصقت بها ظلما وجورا على مر التاريخ.

الغربان هي إحدى هذه الحيوانات التي تعيش في مُجتمع يُمارس فيه العدل الذي غاب عنا نحن البشر بحكم الخليقة، ولها من الشرف ما يجعل من الأنثى تدافع عن نفسها وتبعد عنها المعتدين، وما يجعل من الاعتداء جريمة عقوبتها الإعدام في محاكمة عادلة يغيب فيها محامي الادعاء.

من قام بسفك كل هذه الدماء؟ أليسوا وحوشاً برتبة إنسان؟ ومن هم الأولى بربط الشؤم بهم؟ غربان تعيش في كنف النظام والعدل، أم مسؤولون وحُكام مستبدون؟

أي عدل أكثر من هذا الذي يُطبق فيه القصاص، ويُفرض فيه على المعتدي بتخريب عُش ببناء غيره، في الوقت الذي تتركُ فيه عدالة البشر قتلة ومغتصبي الأطفال أحياءً بادعاءات سخيفة تقول بعدم جواز سلب حياة مجرم حقير، أيُ إحساس هذا الذي يجعلُ من الغربان تندبُ موتاها وهي تنعق حول جثثهم، لتدفنها كأنها تُكرمُها، ووحوش البشر ترمي بجثث بني جلدتها ومنهم أطفال أبرياء بعد التنكيل بهم في أقبية المنازل وفي مجاري الوديان، وحتى اليوم ما زال كثير من البشر لم يتعلموا من الغراب كيف يُواري سوأة إخوته.

منذ القدم ارتبطت صورة الغراب في الوجدان البشري بهالة يطغى عليها النفور والكره، وبتصور سلبي رسمته أغلب الثقافات عن هذا الكائن الأسود، ربطته بالسحر والشعوذة والموت وبكل ما هو شؤم، فقد كان الإغريق يمنعون الغربان من أن تحط فوق مُجمع المعابد الذي يعلو أثينا لأنه مؤشر على حدوث كارثة، أما هبوطه على سطح أحد البيوت، فيعني نذير شؤم بموت أحد سكانه، وبعيدا عن الإغريق، يعتقد السويديون الذين يحتلون المرتبة الأولى في مؤشر الإيكونوميست والمراتب الأولى عالميا في مؤشر الأمم المتحدة للتنمية البشرية، بأن الغربان هي أشباح الناس الذين ماتوا قتلاً، وبهذا المنطق وإذا استثنينا غربان الحربين العالميتين وبعض الحروب التي حدثت على مر السنين هنا وهناك، فإن أكثر غربان العالم بمعتقد السويديين هم أشباح لقتلى العرب والمسلمين.

ولكن ما الذي فعله مجتمع الغربان حتى تلتصق به هذه الصورة السوداوية عند الوحش الأول الذي اسمه الإنسان؟

الموت، من رآه منا بلون أسود فعاقب به الغراب كأشد ما يكرهه لسواده، ثم ها هو يَـرُوحُ وَيغْـدُو داهنـاً يَتَكَحَّـلُ مثلما قال الشنفرى الأزدي في لاميته.

لا يخفى على المستبد فيهم مهما كان غبيا، أن لا استعباد ولا اعتساف إِلاَّ ما دامت الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء.

الوحشية وماهي؟ أهي التي يقصف فيها بنو البشر بعضهم حتى تختلط الجثث ببعضها ثم لا تدفن كما يليق ببني البشر، وما هو العدل؟ أهو الذي نراه في قهر وإذلال الضعفاء؟ في نهب خيرات الأوطان، وفي مصادرة الرأي وفي كتم الأنفاس، ومن قال أنا ربكم الأعلى؟ أليس هو الفرعون البشري؟ من قام بسفك كل هذه الدماء؟ أليسوا وحوشاً برتبة إنسان؟ ومن هم الأولى بربط الشؤم بهم؟ غربان تعيش في كنف النظام والعدل، أم مسؤولون وحُكام مستبدون؟

عبد الرحمن الكواكبي من الكتاب القليلين الذين شذوا عن القاعدة في ابتعادهم عن الظلم التاريخي للغربان في إسقاطه وتشبيهه للمستبد ببعض الحيوانات التي لم يكن من بينها الغراب، فهو في وصفه للمستبد في نسبته إلى رعيته، لم يشبهه إلا بالوصي الخائن القوي يتصرف في أموال الأيتام وأنفسهم كما يهوى ما داموا قاصرين ضعفاء، لأنه إذا كان طيراً لن يكون إلا خُفاشاً يصطاد الهوام في ظلام الجهل، وإذا كان وحشا فلن يكون إلا ابن آوى يتلقف دواجن الحضر في غشاء الليل.

وإذاً، من هو الأكثر وحشية؟ غربان تعرف العدل وهي أبعد ما تكون عن الاستبداد، أم بشر قال عنهم الكواكبي لا يخفى على المستبد فيهم مهما كان غبيا، أن لا استعباد ولا اعتساف إِلاَّ ما دامت الرعية حمقاء تخبط في ظلامة جهل وتيه عماء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.