شعار قسم مدونات

جيل التيه.. أنتجه جيل الاستعمار ورباه جيل الاستبداد

blogs - camels
ليس لأحد أن يحملنا مسؤولية غيرنا، فنحن جيل صنعوه ولم يصنع نفسه، نحن جيل تشكل عقله بين الاستعمار والاستبداد، بين الانسلاخ والاستلاب، بين القهر والسراب، فكيف تريدون منا أن نسقى بكل آفات التاريخ الذي تربينا فيه وننتج أطيب الأزهار؟ وكيف تريدون منا أن نحدث القطيعة مع ماضينا بأعلام بيضاء، بينما فتحنا أعيننا على الرايات الحمراء والسوداء؟

كثيرا ما تدرس أوضاع العالم العربي من خلال عقل غائب عن التاريخ، يستحضر الأفكار في تجريدها ويفصلها عن سياقاتها السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وتدفع هذه الرؤى دائما إلى نوع من التحليل السطحي الساذج الذي يحمل الجيل مسؤولية الفشل والعجز والإعاقة، كأنها تطلب من مدارس محو الأمية صناعة الصواريخ العابرة للقارات، ومن المقعدين في الكراسي المتحركة الفوز بميدالية السباقات؟

فهل حقا لا تستحضر هذه الأصوات كل أوصاف الخلفية التي شكلت هذا الجيل ودفعت به إلى العديد من الطرق المدمرة، من الاستكانة المترسبة من خضوع عهود الاستعمار بعد فشل العديد من الثورات، إلى خنوع عقود الاستبداد الذي أفلح في الالتفاف على كل الحركات الإصلاحية وشرائها وتطويعها أو تحييدها، وتريد هذه العقول أن يتشكل وعي الجيل فقط من المحطات المنيرة مع أنها لم تكن إلا ومضات مضيئة في ليل طويل.

العقول التي تسبنا هي ذاتها العقول التي أنتجت لنا خطابا دينيا يرضى بالدنية، ويؤمن بالصبر الذي يعطي الواجبات ولا يطالب بالحقوق.

العقول التي تنتقدنا هي ذاتها العقول التي ربتنا ودرّستنا وزرعت فينا كل أشكال السلبية وألوان العصبية وأنواع التعصب، وهي التي ساهمت في تكوين العقول القابلة للاستعباد، والقابلة للاستعمار، والقابلة للاستحمار والاستركاب، لكنها تنسى كل هذا، وتفخر فقط بثورات تريدنا أن نصدق رغم أنوفنا أنها كانت ثورات كل الشعب وجميع النخبة، مع أن التاريخ الذي علمونا إياه يبرز لنا حجم الخيانات، وعدد العملاء، ويحتفظ باتفاقيات الاستسلام وبيع الأرض والتفريط في العرض، لكننا نطالب دوما في الاحتفالات والكرنفالات بالنفخ في كل ما حدث كأنه نموذج من فتوحات خالد وتوسعات الإسكندر وانتصارات نابليون.

العقول التي تنتقدنا هي ذاتها العقول التي كثيرا ما بررت للاستعمار باسم المرحلية، وتعايشت مع الاحتلال باسم الحكمة، وأيدت الطغيان باسم المصلحة، وتنازلت عن الحقوق تحت شعار المطالبة، ووضعت يدها في يد المجرمين باسم حماية المكتسبات الكبرى، إنها العقول ذاتها التي قالت لنا ونحن صغار أننا شعب عظيم، وكنا يومها نحلم فقط بالخبز والزيت، ولم تسمح لنا أحلامنا أن نتذكر الطائرة أو نستشعر وجود الحاسوب، وألبستنا لباس القناعة بالفقر والتخلف من خلال نشراتها الرسمية التي تجلد آذاننا بإنجازات الزعيم، وتدشينات الزعيم، وسياسات الزعيم، حتى قالت لنا بأنه يفكر بدلكم، ويعقد المعاهدات بتفويضكم، إلى أن جاء اليوم الذي قبل بعضنا أن يفوضه ليقتل بعضنا الآخر، فقيل لنا: أنتم جيل مجرم راكع للمستبدين، ولم يتذكروا أنهم هم الذين ربوه في المدرسة والجامعة والمسجد والسوق والإعلام….

العقول التي تسبنا هي ذاتها العقول التي أنتجت لنا خطابا دينيا يرضى بالدنية، ويؤمن بالصبر الذي يعطي الواجبات ولا يطالب بالحقوق، ووصفت كل من رفع رأسه بالانحراف والضلال، ونزهت المستبدين عن كل خطيئة، بل ووجدت لهم تبريرا لكل جريمة، وتخريجا لكل مصيبة، وتأويلا لكل ردة على قيمنا ومنظومتنا المعرفية وخلفيتنا الحضارية، وهي العقول التي قبلت أن تمثل دور "الكومبارس" في كل تمثيلية تضمن تواصل مسرحية الحكم الرشيد، لتندد بعدها بالإخراج الرديء عبر القنوات، وتطالب في المجالس الخاصة بحصتها كاملة عن إتقان الدور، والنجاح في ضبط الصورة وترسيخ المشهد بما يضمن استمرارية الجبروت.

العقول التي تنتقدنا هي التي أقفرت بتخطيطها أراضينا، وجعلتنا يتامى آبار النفط نستجدي ما تمنه علينا من دولارات نشتري به قوتنا ولباسنا وأدواتنا المدرسية ولعبنا المنزلية، واكتسحت جرافاتها تربتنا الخصبة لتؤسس عليها قصورها ودورها ودور أبنائها، حتى إذا اشتكى أحدنا من الظلم والقهر أسكتته بمنحة البطالة ليصرفها على علب الدخان وألعاب الفيديو.

إننا جيل يحمل من ثقل التاريخ ما لا بد له من نضالات طويلة لتجاوزه، ومن جهود جبارة في فهم الجينات السلبية التي تسربلت بالحكمة والصبر واليقظة وتفويت الفرص والشجاعة ونفذت إلى عقله؛ لتخدره أو تنحره في يقظته الأولى قبل أن يفهم محيطه ويميز أصدقاءه من أعدائه، ولا بد له أيضا من التدقيق في طبيعة الذين يخاطبونه ممن أورثوه هذا الحال ليميز فيهم بين أصدقائه وأعدائه، فلا تجلدوه بلسانكم بعد أن جلدتموه طويلا بعقولكم، ومناهجكم، ومناصبكم، وإعلامكم، وليس له من طمع منكم، بل يريد أن يكون موسى لفرعونكم.

قد نعذركم يا جيل الاستعمار والاستبداد لو أنكم اعترفتم بجريرتكم وتركتمونا، لو أنكم تلمستم في خطايانا بصماتكم ودروسكم وكتبكم وتوجيهاتكم وتربيتكم.

دعونا من التنظير الأجوف، ففي الحاضر الذي صنعتموه ما يدل على أنكم فاشلون، وكفوا عن التوجيه القادم من علياء الاستعلاء والعجرفة الفارغة باسم الحكمة ودروس التجارب، فأنتم لا تزالون تكررون خطايا الماضي دون أدنى اعتبار، فالذي باع الأراضي لا يزال يبيعها، والذي خان الرفاق لا يزال يخونهم، والذي برر للطاغية والمستبد وتحالف مع الشيطان لا يزال يدافع عن سقطاته كأنها فتوحات وطنية وإنجازات تاريخية.

إننا جيل التيه، نعم، لكنه وجد نفسه في التيه ولم يقذف بنفسه إليه، فهل تبتعدون عن طريقنا لنكون جيل الخلاص. أرجوكم: ابتعدوا، دعونا نصنع شيئا من التاريخ، فما زالت أنفاسكم تخنقنا، وأصواتكم العالية تضيع بوصلتنا، وضجيجكم الصاخب يحجب الرؤية عنا، فلماذا تصرون على تلويث مستقبلنا كما لوثتم ماضينا؟

قد نعذركم يا جيل الاستعمار والاستبداد لو أنكم اعترفتم بجريرتكم وتركتمونا، لو أنكم تلمستم في خطايانا بصماتكم ودروسكم وكتبكم وتوجيهاتكم وتربيتكم، لكنكم تسرعون دائما إلى إعلان البراءة، كأنكم ملائكة أنتجت شياطينا، بل كأنكم كنتم دائما تلقون علينا دورسا في ترتيب الأزهار، مع أنكم كنتم تعلموننا النضال في سبيل الزعيم، والتضحية في سبيل القائد، وتلقون في وعيينا أن المخالف دوما مجرد مبعوث من جهنم لا بد من إعادته إليها، فلما نفذنا لكم أمنياتكم، وحققنا لكم رغباتكم، قلتم إننا مدسوسون مخبرون، بل إننا عيون الجحيم الذي تحذرونها؟

يا جيل التيه، لست أكتب هنا عن براءتك، أو أرافع لأبعدك عن التهم والإخفاقات، بل فقط لنتقاسم الخطايا التي أنتجت الواقع الذي نحياه، ولي عودة إليك، لتفهم معي أننا ورثنا الاستبداد ونتجه لنورّث للجيل القادم شر أنواع الانشطار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.