شعار قسم مدونات

الفلسطينيون الذين لا يقرؤون بعضهم جيدا!

blogs - palestine boy
تعودنا كفلسطينيين أن نظن بعضنا متفاهمين لمجرد أن أصلنا واحد، وتعودنا بنقيض العادة الأولى أن ننسب بعضنا كل إلى بلد أو مجموعة أتى منها! "هاظا فلسطيني سوري لبناني عراقي، أردني، أنا ضفاوي، غزاوي".

وبرأيي أكثريتنا المشتتة، فإن قراءتنا لبعضنا صحيحة راسخة وكأنها وردت في كتاب مقدس أو اشتقت من ثوابت القضية، حيث لم يرد من أسس هذه القراءات، وهو ليس شخصا بعينه بل منظومات وتراكمات، لفت انتباه الفلسطينيين إلى أن تلك الرؤى تتماهى بشكل ﻻفت مع خدع سياسية فرضت كما الاحتلال والشتات!
 

ولا عجب في أن تطبّع الفلسطيني بطباع مجتمعات دول اللجوء أو اندماجه فيها، أنتجا إيجابيات وسلبيات، سببت في معظم الأحيان إساءة فهمه للمجموعات الفلسطينية الأخرى. دون إغفال أن ضعف محاولات التواصل فاقم المأساة.

تعرض الفلسطينيون في لبنان لسلسلة من المجازر والنكسات وخيبات الأمل لم ترافقها وقفات جادّة من فئات فلسطينية واسعة.

ولعل كثرة المتعلمين والمبدعين الفلسطينيين رغم الافتخار الجمعي بهم، عجزت عن سدّ الفجوات كونها حالات فردية ولا مصبّ جمعي لها، وعلى اعتبار أن الرقي العلمي لم يترافق مع نضوج في الثقافة المجتمعية.

الحالة الاجتماعية الرتيبة تنعكس على السياسي والأخلاقي، فقبل فترة قصيرة، اتهم بعضنا نواب القائمة العربية المشتركة بالتهريج لأنهم أقاموا الأذان داخل الكنيست ردا على مشروع قانون إسرائيلي من شأنه منع استخدام مكبرات الصوت لرفع الأذان في مساجد القدس والأراضي المحتلة العام 1948م.

هذا ليس كل شيء، فبعض آخر منا اختلطت عليه الأمور وذهب إلى تعميم مفاده أن جميع فلسطينيي 48 متعايشون مع المحتل وولاؤهم له! وهو ما يفسر أن معظم الادعاءات السابقة لم تكن وليدة لحظتها، بل نتجت عن قلة اطلاع على وسائل الفلسطينيين النضالية للحفاظ على وجودهم في الداخل المحتل، وهم سكانه الأصليون.

حادثة أخرى تتكرر منذ سنوات، حيث يتـهم بعضنا فلسطينيي سوريا بأنهم "رفصوا النعمة" وخانوا مخيماتهم ومن احتضنهم وأعطاهم حقوق المواطنة، لمجرد أنهم نزحوا عن البلاد هربا من القصف والجوع وسوء المعيشة! فيما بعض آخر اتهم من صمد داخل تلك المخيمات بالإرهاب والعمالة للخارج، فلم يسلم من التهمة أي من المحاصرين أو الهاربين.

هي حقائق لفلسطينيين قالوا على فلسطينيين هذا الكلام الظالم، وكأن ملائكة قررت معاقبة الشياطين! أو أن خريجي القانون الدولي لم يرغبوا دراسة الأوضاع القانونية والإنسانية للعالقين في الحرب فقرروا استثناءهم باستنتاجات غريبة!

ورغم كونه دما مقدسا أينما نزف، إلا أن جزءا فلسطينيا يسخّف المأساة الفلسطينية في سوريا ويعتبرها شيئا لا يذكر أمام مآس قديمة، في سياق مقارنات ساذجة مع مجازر تل الزعتر وحرب المخيمات أو مع حروب غزة، وكأن الدم يصلح للمقارنة بنفسه!

حقيقة الأمر أن ما يهم أفراد هذه الفئات أن يعبروا بساديّة فاقعة عما يعتبرونه قراءة صحيحة للواقع.

وكي لا يغفل أحد أمرا قاسيا، ففي أوائل الألفية الثانية كان لزاما على مئات العائلات الفلسطينية الهرب من بطش الحرب في العراق ومبيت ليالي الصقيع والرمضاء داخل مخيمات صحراوية على الحدود مع سوريا والأردن، حاملة معها ألم فقد فلذات أكبادها.

غير أن معظمنا لم يستشعر حجم المصائب تلك، وظلّ التقصير تجاه الأخوة مستمرا سوى من بعض المساعدات الخجولة، إلى أن هاجر معظمهم فيما عاد البعض حيث أتى دون المطالبة بحمايته أو على الأقل تسجيل موقف شعبي يواسي الجراح.

ينتمي الفلسطيني إلى أكثر من هوية ووطن، ولا شيء في السياق التاريخي والمنطقي يمنع ذلك، لكنها جدلية يتوجب توضيحها للفئات القاعدية كي تتقبلها.

في سالف الزمان تعرض الفلسطينيون في لبنان لسلسلة من المجازر والنكسات وخيبات الأمل لم ترافقها وقفات جادّة من فئات فلسطينية واسعة، ولعلها حالة الخذلان ذاتها التي يشعر بها الفلسطيني في الضفة وغزة، ليكتشف من يرغب في البحث والتحري أنه مقصر مع "الأكثرية اللي مش طايقين البقية"، وهكذا إلى ما لا نهاية!

شعبويا، تنظر شرائح واسعة من المجموعات الفلسطينية في البلدان العربية بعين "الحسيدة" إلى مجموعات الفلسطينيين في أوروبا والأميركيتين، فيما تراها فئات من الأخيرة بعين الازدراء، ليعود الفرقاء ويستذكرون بعضهم في المناسبات الوطنية من باب الديكور التجميلي والافتخار بالأصول العريقة لأبناء الوطن المنتشرين!

النخب الفلسطينية المثقفة في الدول العربية وكذا نواة المجموعات المهاجرة تغض الطرف عن إمكانية التقارب بدل لعب دور البطولات الفردية، ويعيق تلك الخطوة تماهي معظم تلك النخب مع منظومات ومحاور سياسية تدخل في لعبة المصالح الإقليمية والدولية، فضلا عن غرور أفراد منها بتجاربهم الشخصية وانعزالهم عن التفاعل الاجتماعي.

وللأسف فلم تعتد مجموعة فلسطينية على إنصاف التجارب النضالية للمجموعة الأخرى، أو على الأقل تأسيس إدراك صحيح لحالتها، ينوب عن القراءة النمطية التي صنعتها حالات شاذة تفرض على الفلسطينيين دائما،  فتجربة كل مجموعة ﻻ يحق للأخرى تجاهلها أو اعتبارها شيئا يجب أن يتماثل معها أو يقتدي بها.

من غير الصواب طبعا إضفاء درجة من التكبر على جراح فئة فلسطينية أثناء تقييم تجاربها، فنضال كل مجموعة وقراءة حالتها وواقعها لا يتطابق مع الأخرى في سياقات اجتماعية وسياسية كثيرة، ويفترض أن تكمل النضالات بعضها بدل التناحر والتضادّ.

قلة هي من تحاول أن تفهم الجوانب القانونية والتاريخية والاجتماعية للفلسطيني الآخر في مكان لجوئه أو داخل أرضه المحتلة قبل أن تبني أي تصور عنه، وهو ما تفسره "سياسة القطيع" التي تنتهجها الأكثرية، ولا يمكن إنكار أن التجارب السياسية حيث يوجد الفلسطينيون تراكمت وتكدست مع الأمراض الاجتماعية والقوانين السائدة، وأسست لحالة لا صحية وتباعد بعكس ما يظن كثيرون.

ولربما بات الفلسطينيون غير قادرين أن يكونوا شعبا واحدا بالمعنى الحقيقي قبل تنظيم مئات الندوات واللقاءات الأكاديمية والشعبية للإجابة عن سؤال الهوية: من هو الفلسطيني؟!
 
ففي معظم المناسبات ينتمي هذا الفلسطيني إلى أكثر من هوية ووطن، ولا شيء في السياق التاريخي والمنطقي يمنع ذلك، لكنها جدلية يتوجب توضيحها للفئات القاعدية كي تتقبلها. كما يحتاج مفهوم الهوية برنامجا أكاديميا يمنع الذوبان ويحدد مسارا اجتماعيا واضحا، وإثباتا أن الأمم لم يؤسسها عنصر بشري واحد.

لا جدوى لدعوات التحرير بلا انسجام شعبي وتحرر فكري، ولا يصح في هذا السياق تحميل المسؤولية كاملة للمحتل والأنظمة العربية.

وأما عن أزمة القيادة وفقدان التعددية الحزبية السويّة، وكذا معضلة غياب البرنامج الوطني وقضية تحديد الأنصار الفاعلين والخصوم، فهي مشاكل يختلف عليها الفلسطينيون رغم معرفتهم بضرورة حلها، وتحتاج لمعالجة اجتماعية قبل السياسية.

الجدلية المهمة أن كثيرا من المنظرين للقضايا العادلة أسوأ بشخوصهم من أعداء القضايا ويلزم استبدالهم، ما يحتم وضع برامج تأهيل للقادة تنوب عن الدوران في حلقة مفرغة.

فضلا عن ذلك، فوجود عدد كبير من الأشخاص غير المناسبين في مفاصل العمل يحتم ضرورة إقصائهم، سيما وأن معظمهم غير مؤهلين علميا ويحاولون فرض أنفسهم بالترغيب والترهيب.

وليس شؤما بل واقعا، يؤكد باحثون فلسطينيون فرضية تراجع الحالة العامة للقضية، وهو اعتراف يمثل خطوة في الطريق الصحيح نحو الحل، ترفده دراسات تؤكد أن المزاج الاجتماعي العام للشعب ليس هو الصواب دائما بل يحتاج إلى تقويم حتى يكون أكثر نضجا.

كل ما سلف هو محاولة لكسر الجليد ودعوة للمعالجة في سياق اجتماعي مواز للسياسي، ولا يقل أهمية عنه، فلا جدوى لدعوات التحرير بلا انسجام شعبي وتحرر فكري، ولا يصح في هذا السياق تحميل المسؤولية كاملة للمحتل والأنظمة العربية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.