شعار قسم مدونات

التعليم ليس الحل بل هو أصل المشكلة

blogs - class

بدأ عبسي يوما دراسيا آخر وكان يسير بالشكل الذي توقعه ممل، محبط، وروتيني جدا.. لكن فجأة وبينما كان عبسي غارقاً في أحلامه في حصة الرياضيات دخل مدير المدرسة أبو العبد إلى الصف وقال للأستاذ وهو يلهث ما بدا كأنها آخر أنفاسه "بسرعة، بسرعة! المفتش في الطريق إليك "وخلال دقيقتين فقط قُلب الصف رأسا على عقب، قام المدرس بإيقاظ مجدي ووجدي النائمان ثم قام بنقل جميع الطلبة المجتهدين إلى الصفوف الأمامية ونقل "حثالة" الصف إلى أواخرها. وما إن دخل المفتش حتى بدأ المدرس يشرح بشغف وحماس هستيري لم يشهد الطلاب مثله قط، حتى إن عبسي ولأول مرة في حياته فهم المعادلة التربيعية وكيفية تحليلها.
 

سرح عبسي قليلا وبدأ بالتفكير هل يعقل أن المفتش غبي لهذه الدرجة؟! هل يعقل أنه لا يعلم أنها تمثيلية؟ أكيد هو يعلم.. لكن هل يعلم المدرس أن المفتش يعلم؟ بالطبع! وهل يدرك المفتش والمعلم أن الطلاب يدركون أنها تمثيلية؟ لكن ما الفائدة؟! من المخدوع في هذه الحالة؟! هوليوود نفسها لا يوجد بها هذه الكمية من التمثيل: المدرس يمثل أنه يدرّس، المفتش يمثل أنه يفتش، وعبسي يمثل أنه يتعلم، ونحن نمثل أن نظامنا التعليمي نظام ممتاز كامل يجب أن نتقبله كنظام متوارث مقدس غير قابل للتغيير، لكنه في الحقيقة نظام إجباري عقيم يصنع عبيد أذكياء بما فيه الكفاية لتكرار ما يتم تلقينه، وأغبياء بما فيه الكفاية لعدم إدراك أن ذلك لا يجعلهم أفضل من غيرهم.
 

قريبا ستصبح شهادة الدكتوراه شهادة عادية جدا كما هي البكالوريوس الآن، هي عملية مستمرة من التضخم الأكاديمي والتي ستصل بنا إلى طريق مسدود يتساوى بها صاحب الشهادة مع الغير متعلم..

بداية النظام التعليمي كما نعهده بصورته الحالية جاءت مع بداية الثورة الصناعية وهذه ليست بصدفة؛ عندما احتاجت المصانع الكبيرة للإنتاج بكثافة بالغة ابتكرت لذلك آلية غايتها الإنتاج بنطاق واسع وبدقة لا متناهية، فالفكرة هي إنتاج أكبر كمية ممكنة في أقل وقت ممكن، لكن المشكلة هي أن التعليم أُخضِعَ لنفس النظام "نظام خط الإنتاج" وهو ما يفسر سبب تخرجك كمنتج نهائي على شكل حزم مع طلاب آخرين تم تصنيفك معهم حسب العمر بالنهاية أهم صفة بالمنتج هي تاريخ إنتاجه.
 

أحد أكبر مشاكل التعليم، هي فشل طريقة التقييم فيه "الجميع عباقرة لكن إن حكمت على قدرة سمكة في تسلق الشجر ستعيش حياتها كاملة وهي تؤمن بأنها غبية ". قال أينشتاين هذه المقولة الشهيرة قبل 60 عاما وما زلنا نعاني من نفس المشكلة حتى الآن. في الواقع النظام التعليمي لم يتغير أو يتطور منذ 150 عاما! وكذلك الأمر بالنسبة لتعريفنا ومفهومنا عن الذكاء "فالطفل الذكي" في نظرنا هو ذلك الذي يجلس في الصفوف الأمامية، يواظب على حل واجباته المدرسية، يغلق الزر الأخير من القميص ويفرق شعره حتى يظهر الطريق السريع في منتصف رأسه، وأهم شيء يجيد حل المعادلات الرياضية..
 

لكن ما هذا إلا محض هراء متوارث وجد لتسهيل عملية التقييم وتبسيطها؛ ففي عام 1983 أثبت عالم النفس هاورد غاردنر أن هنالك 9 أنواع من الذكاء: كالذكاء الوجودي، الذكاء الاجتماعي، الذكاء البدني، الذكاء المنطقي.. إلخ. لاحظ أن الذكاء المنطقي الذي نقدسه ما هو إلا نوع واحد من بين 9 أنواع أخرى وما زلنا نعتقد أن من لا يمتلكه سيفشل فشلا ذريعا ومصيره العذاب بالدنيا والآخرة.
 

مثال: لو حدث وجلست في مقهى مع "كريستيانو رونالدو" وعزمته على فنجان قهوة سادة وحاولت مناقشة معادلات نيوتن معه أو عن الوضع السياسي أو حتى الاقتصادي قد تجد أنه أحد أغبى مخلوقات الأرض من ناحية الذكاء المنطقي لكنه يكسب مالا بالشهر أكثر مما ستجنيه أنت على مدار الـ 60 أو الـ 70 عاماً التي ستعيشها، ليس لأن الحياة غير عادلة أو لأن حظك سيء بل لأن رونالدو يمتلك ما يسمى بالذكاء البدني وهو أحد أنواع الذكاء الذي يتم تهميشه بل وحتى نزعه من الطفل العربي خلال مروره بالنظام التعليمي.
 

عندما يقف معلم واحد أمام مجموعة متنوعة من الطلاب ويلقنهم الدرس نفسه بالأسلوب نفسه واللهجة نفسها هذا لا يختلف بشيء عن طبيب يصف لجميع مرضاه نفس الدواء، الفرق الوحيد أن الناس يفشلون في رؤية النتائج الكارثية المترتبة على الحالة الأولى. النتيجة؟ أفراد موهوبين، مبدعين، عباقرة، يظنون أنهم عالة على المجتمع!
 

لا أعلم بالنسبة لك لكن عندما أجلس في محاضرة لا أحبها أشعر أن عقارب الساعة تتوقف تماما في بادئ الأمر ظننت أن الأرض تتوقف عن الدوران خلال المحاضرة وتكمل دورانها بشكل سحري مع انتهائها لكنني أدركت أن المشكلة مني أنا، فما هو إلا شعور داخلي نابع من كرهي ومقتي الشديدين للطريقة التي يتم بها تلقيني وتحفيظي معلومات ليس لي بها أدنى اهتمام، وفي كل مرة يخطر على بالي السؤال نفسه: ما الذي يجبرني على الجلوس هنا وتحمل كل هذا؟ قد تبدو الإجابة واضحة في بادئ الأمر: اجتهاد← علامات جيدة← شهادة← وظيفة واستقرار مالي← حياة سعيدة← ملك الموت← الجنة. كانت هذه خطة آبائنا -الطموحين منهم على الأقل- هي معادلة بسيطة بل وحتى مقنعة وكانت صحيحة في وقتها.
 

إن تحصل على شهادة أفضل من لا شيء، لكن عندما تعلم أن 32 بالمئة من أغنياء العالم لا يمتلكون شهادة جامعية وأن 80 بالمئة من الناس يكرهون وظائفهم فهذا يدعو إلى التفكير قليلا.

لكن الوضع اختلف الآن، فحسب منظمة "UNESO" في الـ 30 سنة القادمة سيزداد عدد الخريجين وأصحاب الشهادات في العالم ليصبح أكبر عدد وصلنا إليه من بداية التاريخ؛ وذلك بسبب عدة مؤثرات متراكمة كالتطور التقني وتأثيره على العالم والعولمة والعدد المتزايد من السكان والمتناقص من الوفيات. بينما تتقلص الوظائف المتاحة بسبب استبدال اليد العاملة بالآلات تدريجيا.
 

قبل فترة ليست بالبعيدة من الزمن كان كل من يمتلك شهادة ثانوية عامة يمتلك وظيفة تلقائيا، أما الآن ترى حاملين لشهادة البكالوريوس لا يستطيعون الحصول على وظيفة بل وحتى مقابلة عمل! يجب أن تحصل على ماجستير حتى تتميز في السوق.. قريبا ستصبح شهادة الدكتوراه شهادة عادية جدا كما هي البكالوريوس الآن. هي عملية مستمرة من التضخم الأكاديمي والتي ستصل بنا إلى طريق مسدود يتساوى بها صاحب الشهادة مع الغير متعلم..
 

طبعا إن تحصل على شهادة أفضل من لا شيء لا نقاش في ذلك، لكن عندما تعلم أن 32 بالمئة من أغنياء العالم لا يمتلكون شهادة جامعية وأن 80 بالمئة من الناس يكرهون وظائفهم فهذا يدعو إلى التفكير قليلا.. فتساؤلك عن سبب تهميشك لكل اهتماماتك وشغفك وأحلامك من أجل وظيفة غير مضمونة -والتي وإن حصلت عليها على الأغلب لن تكون الوظيفة التي لطالما أردتها- يصبح فجأة تساءل منطقي للغاية، بل أنت تمتلك كامل الحق في أن تسأله، إلا إذا كنت من أصحاب الواسطة فهذه المقالة لا تعنيك.
 

الحقيقة أن مشاكل التعليم كمشاكل حماس وفتح لا تنتهي.. يمكنني الاستمرار في الكتابة عن النظام التعليمي ومضاره ومشاكله للأبد، لكن أظن أن الجميع يدرك أو على الأقل يشعر بوجود خطأ ما في تركيبة النظام ككل. غير أننا نصطدم بالسؤال ذاته "ما البديل؟".

سأحاول الإجابة في مقال قادم إن شاء الله

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.