شعار قسم مدونات

أن تكون طالبا دوليا في غزة

blogs - gaza
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
"وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى." الضحى (5)

قد تخطر في بالنا أفكارٌ معينة في مرحلة الدراسة الرئيسة، قد تكون هذه الأفكار عصيةً على التطبيق، أو قد نفكر بها فقط لنحلق في فضاءاتٍ أوسع في خيالاتنا وأحلامنا. فبينما كنت في مرحلة البكالوريوس في الجامعة الإسلامية في ماليزيا، كانت تجول في خاطري مثل هذه الأفكار التي يعتبرها البعض بعيدة المنال وصعبة التحقيق، ومن بينها فكرة اكمال دراستي في الجامعة الإسلامية بغزة للحصول على درجة الماجستير. عندما عبّرت لأصدقائي الفلسطينيين في الجامعة عن هذه الفكرة وعن إصراري على تحقيق هذا الأمر، استغربوا وأجمعوا على استحالته لعدة اعتبارات أبرزها أنهم هم أنفسهم لا يتمكنون من العودة إلى غزة وهم فلسطينيون.
 

إنني لن أتحدث عن الصعوبات التي واجهتني في الطريق لمعبر رفح، لأنها تُنسى في أول خطوة لدخول غزة.

كان هذا حلمي، بل حلم طفولتي الذي أسررته في عمق فؤادي. بعد التخرج عدت لتركيا وعملت هناك لسنتين وازدادت رغبتي لدراسة الماجستير في تلك المنطقة التي يعتبرها المعظم منطقةً خطرة والدخول فيها مجازفة كبيرة. ولكنني كنت مصرة على هذا الأمر رغم كثرة الفرص المتاحة لإكمال دراسة الماجستير في تركيا أو أوروبا، ولكنني ظللت متشبثةً بحلمي ولو بيني وبين نفسي.

كنتُ على يقين، بأن الحلم لن يتحقق إذا ظلَّ حبيسَ البال والخاطر، فاتخذت الخطوة الأولى بمصارحة أحد الأصدقاء من غزة عن ما في نفسي، وفاجئني برده "لمَ لا يكون هذا الأمر!"، وفعلاً، قمنا بإجراءات التقدم والتسجيل بالجامعة، وساعدنا أحد العاملين بالجامعة ممن أنهوا دراستهم من تركيا ويكن الحب لتركيا، فاختصر وقتاً كبيراً وأوصل رسالتي إلى رئيس الجامعة لتصلني رسالة رئاسة الجامعة فيما بعد بأن" تركيا إخواننا وفي كل ظروفنا الصعبة كانوا بجانبنا، لذلك عليكم تسهيل كل الإجراءات واعطاء القبول لابنتنا" ، ومنذ هذه اللحظة، انصرف عني هاجس موافقة الجامعة على منح طالب أجنبي موافقة للدراسة في أروقتها.

صارَ حماسي للفكرة أكبر، فتقدمت بطلب من سفارتنا في مصر لتوفير إذن لدخولي غزة عبر معبر رفح لهذا الغرض. كان ردهم إيجابياً وصريحاً في نفس الوقت إذ أخبروني أن هذا الإجراء سيكون لأول مرة وبالتالي احتمالية نجاحه ستكون 50% فقط.

ومع ذلك، كان إيماني بحلمي كبيراً.. فلم أيأس ولم أستسلم. لازمت الدعاء في كل أموري وخطواتي، ولوجود هدف قوي، فإذا كنت في طريق صحيح فلم يكن لدي أدنى شك بأن ربي القادر على كل شيء، سيحقق لي ما أتمنى، ويقدر ليَ الخير. وبعد حوالي شهرين أتاني اتصال وقال لي" مبارك سيدة رقية.. اذنك لدخول غزة جاهز". حينها لم تسعني الأرض من شدة الفرحة التي عشتها في تلك اللحظات، كانت فرحةً لا توصف.

وبعدها وبشكل سريع، حصلت على الفيزا لمصر، وبعدها بوقت قصير سمعت عن فتح معبر رفح الذي يُفتح لأيام محدودة في العام. الإذن الذي حصلت عليه يفيد بالتالي " في أي وقت تقوم الحكومة المصرية بفتح البوابة يسمح لكم بالعبور، لهذا السبب عليكم التواجد في معبر رفح".

كانت البداية إلى القاهرة ومن هناك إلى العريش، وإنني لن أتحدث عن الصعوبات التي واجهتني في الطريق لمعبر رفح، لأنها تُنسى في أول خطوة لدخول غزة. ومقابل الإنسانية التي بداخلكم وبالسؤال " يا ترى هل الكل ينام" تستمروا في طريقكم.

وفي غزة.. رغم أن الفاصل بينها وبين مصر هو جدار فقط لكن هواها يختلف، أهلا بكم في بيتكم ويأخذكم بالأحضان، انحنيت وقبلت ترابها، وفي خطوتي الأولى وبمجرد سماعهم أنني من تركيا انهالوا عليّ بالشكر الجزيل، وخلال إجراءات الدخول يأتي الماء من جهة والحلويات من جهة أخرى، وبسحر هؤلاء الناس الطييبين عملوا على أن أنسى مشقة الطريق والسفر.

ومجموعة من الجامعة ورفقائي في الطريق دخلوا قبلي إلى غزة، أتوا لاستقبالي في معبر رفح، وبسرعة وبعد تسهيل عملية الدخول، ذهبنا لبيت ذلك الأخ الذي سهل لي إجراءات التسجيل بالجامعة والذي يعتبر محبة تركيا دين عليه، وإذا أردت أن أتحدث عن طريق استقباله لي فإنني لن أفيه حقه. وحيث أنني دخلت لغزة مباشرة قبل عيد الأضحى، فكانت الجامعات في عطلة العيد. وبالمناسبة فإن عطلة الجامعة الإسلامية الأسبوعية هي يومي الخميس والجمعة أما باقي الجامعات فهي الجمعة والسبت.
 

في اليوم الأول لي في الجامعة تعرفت على مدير القبول والتسجيل وذلك لغرض إتمام عملية الالتحاق بالجامعة والبدء بالدراسة، كانت الإجراءات ميسرة والكل يتعامل بلطف، ويعترف بجميل وفضل تركيا على الجامعة وعلى غزة. ولكل مكان ذهبت في الجامعة كان الأمر كالعيد حيث أن طالبة من تركيا اختارت الجامعة الإسلامية وأتت لإكمال دراسة الماجستير. وكم كان هذا الأمر مهماً لهم فتمثلت في أكثر كلمة سمعتها خلال هذا الأسبوع وهي " شرفتمونا ". وبالمناسبة ففي هذا الوقت قد تحسنت لغتي العربي والتي ظننت أنني أعرفها.

كان الكل ودوداً ولطيفاً.. رئيس الجامعة ونوابه وكذلك رئيس مجلس الأمناء، كان تعاملهم معي بروح الأبوة.. إذ أشعروني أنني في بيتي، وبينما كان البعض مشغول في نصحي لاختيار المساقات الدراسية لأبدأ بها في هذا الفصل، فكان الآخرون يقدموا النصيحة كيف يجب عليّ أن أكون فعالة في غزة، وكل هذا كان يقدم لي من أعلى هيئات الجامعة.

والصحيح أنه يجب أن نتوقف ونسأل أنفسنا عن تعاملنا في تركيا كرؤساء جامعات ومساعديهم مع الطلبة المحليين والوافدين للدراسة في تركيا، لأن هذا النوع من التعامل الذي حظيت به في الجامعة الإسلامية بغزة، له دور كبير في دعم ومساندة الطالب نفسياً للاندماج والانصهار بالجامعة والجو الجديد خصوصاً في مرحلة البدايات ليحظى الطالب بفرصة جيدة تساعده على النجاح والتفوق.

ومن ثم أرادوا تعريفي على مجتمع الجامعة في جولة قصيرة.. تعاملوا معي على أني السيدة الأولي، وخلالها التف حولي عدد من طالبات الجامعة وسألتني أحدهن هل أتيت من تركيا؟ وقبل أن أجيب أخذتني بحضنها.

في غزة لن تجدوا أمر الطعام شيئاً صعباً، فإما أن تكونوا مدعويين على طعام شهي عند أسرة غزية طيبة، وإما أن تأكلوا على شاطئ البحر طعاماً لذيذاً وبأسعار معقولة.

وللأمانة أن هذا الأمر أثار مشاعري والناظر لشدة حرارة هذا اللقاء يظن أنها تعرفني منذ سنوات وأنها تحاول سد الشوق العظيم. وأثناء هذه اللقاءات الحميمية كنا منشغلين أيضا في أعمال القيد في الجامعة، حتى وأنني أول طالبة ماجستير فيجب عليّ اجتياز المقابلات المطلوبة للقبول كأي طالب ماجستير آخر، وأقولها بكل صراحة.. أنها كانت أجمل مقابلة في حياتي.

وفور الانتهاء بدأت دخول المحاضرات مع العلم أنني وصلت متأخرة أسبوعين تقريباً عن بداية الفصل، وأول محاضرة كانت لمدرس يجيد الانجليزية لذلك ومن أجلي فقد كان يشرح الدرس بالعربي والإنجليزي وهذا يساعدني في تحسين لغتي العربية وكذلك فهم الدروس بشكل جيد، حيث أن الدراسة في الجامعة الإسلامية إما باللغة العربية، أو الانجليزية أو اللغتين معاً حسب التخصص ومجال الدراسة.

من اللافت أن هناك نظام معين يتعلق بالدراسة في الجامعة، حيث أن هناك مساحات ومباني خاصة بالطلاب وأخرى خاصة بالطالبات، وأعتقد أن في هذا الأمر راحة للطلبة. وهكذا فإذا رغبنا أن نرتاح مع أصدقائنا في أي وقت، فإننا نقول لتكون الصبايا مع الصبايا / الشباب مع الشباب.

في غزة لن تجدوا أمر الطعام شيئاً صعباً، فإما أن تكونوا مدعويين على طعام شهي عند أسرة غزية طيبة، وإما أن تأكلوا على شاطئ البحر طعاماً لذيذاً وبأسعار معقولة. علاوةً على أن كل أنواع الخضار والفاكهة الموجودة في تركيا موجودة هنا أيضاً.

عندما أتحدث عن غزة فإنني أقصد قطاع غزة، أي من رفح وحتي بيت حانون أما مدينة غزة فتقع في الوسط، وهناك مناطق أخرى. الكثير من طلبة الجامعة من غزة ومن مختلف المناطق من بيت حانون شمالاّ إلى رفح جنوباً. وأنا الآن أسكن في شمال غزة في جباليا والمعروفة بـ قلب الإنتفاضة، وتستغرق المسافة من هنا الى مدينة غزة حوالي 20 دقيقة أما في حال عدم امتلاك سيارة خاصة مثلي فسوف تضطر للتنقل بين 3 مواصلات للوصول إلى مدينة غزة. وللأسف في غزة ليس كما تركيا فلا يوجد باصات أو المايكرو باص (دولموش) التاكسي منتشر بشكل كبير، فتركبه إلى الموقف الذي تريد وتدفع أجرة المايكرو باص (دولموش) وذلك لأنه سيحمل ثلاثة أشخاص آخرين. وطبعا التاكسي موجود كما هو الحال عندنا وأجرته مشابهة أيضاً.

أجرة البيت، تعتمد على نظافة ومساحة البيت والمنطقة الموجود بها البيت أيضاّ ولكن أسعارها معقولة. ولو يقال أن الحياة هنا تشبه إسطنبول فإنني وجدتها أسهل وأرخص. وبعض أماكن غزة وجدتها تشبه بلدي ديار بكر في سنوات التسعينات أو إسطنبول في الثمانينات. فإذا ما كان القياس 20-30 سنة بين هذه المدن فإنني أظن أن هذا يظهر مدى قوة وإصرار أهل غزة على البقاء، فبلدة عانت من الحروب ومن أجل الحرية تقاتل الى هذا الوقت. ومن جهة أخرى فبعض المناطق التي زرتها في رفح وخانيونس وغزة فإنها تشبه مناطق تركيا في هذا الوقت. وطبعاً هذا الجمال عندما يغطى بزينة مناخ ونباتات الشرق الأوسط، يظهر لنا جمالاً لا نشبع من مشاهدته. ومن بين الحدائق الكبيرة المزينة بأشجار السدر و الليمون والزيتون والبلح تأتي النسمات بلمساتها الناعمة بكل إحساسها، فينقذكم من آلام أتعابكم العميقة واحدة تلو الأخرى.

يوجد في غزة جمعيات المساعدة من تركيا ومن باقي دول العالم. ومن بين المؤسسات التركية التي زرتها "إي ها ها" والهلال الأحمر التركي وتيكا. وجميعهم قابلوني بحرارة، بعضهم يقيم في غزة مع عائلته وأطفاله وبعضهم يعيش في الضفة الغربية ويأتي إلى غزة بين الفترة والأخرى. وطبعاً سفارتنا موجودة في رام الله، وأكن لهم كل الاحترام والتقدير. حتى عمري هذا تعرفت على العديد من الناس الذين أكن لهم الاحترام والتقدير والذين كان منهم من تعرفت عليه في زيارته لغزة ويعملون في السفارة التركية في رام الله. فبهكذا نخوة يحملونها لكم ولكل مشاكلكم فلا يبقى إلا أن نقول الحمد لله أننا من أبناء هذا البلد الجميل.
 

وإن كان يتوارد لأذهانكم عما يمكن أن يفعله الطالب في وقت فراغه في غزة، فدعوني حالاً أخبركم حيث أن هناك الكثير. فإن كنتم طلبة ماجستير فستجدوا الكثير من المصادر الموثوقة لموضوع تخصصكم ورسالتكم، أما إن قلتم يكفي هذا القدر وعليَّ أن آخذ قسطاً من الراحة، فعليكم الذهاب لأقرب شاطئ ومعرفة كيف يكون البحر هائجاً، وكيف أن غضب البحر لا يعرف الهدوء، ويشرح لكم بأمواجه كل همومكم ليريحكم. ويشرح لكم في آفاقه كيف البقاء أقوى، كيف تبقى الأحلام حيةً بين الجدران..
 

أو من الممكن أخذ مكان في أحد الجمعيات المساعدة ضمن برنامج لزيارة العائلات المتضررة من الحروب، وتأكدوا من أن آفاق تفكيركم والحب في صدركم سيزيد. وان كنتم ممن لا يستغنون عن الرياضة فأهلاً بكم بيننا، ففي غزة العديد من صالونات الرياضة والتي هي أجمل من بعضها البعض، وأجملها سيكون الجري على شاطئ البحر، وللسباحة في بحر غزة عليك أن تتحلى بالشجاعة الكبيرة كما في البحر الأسود فالأمواج تأتي ومن الممكن سحب الشخص، أمواج قوية وثابتة كما شعب غزة.

يجب علينا أن نعيش جميعاً كالبشر وبعدها إن أتى الموت فليكن بشكل جميل إن شاء الله. فكانت رغبتي الشديدة ومن أجل الإنسانية أن أقوم بضرب الظلم صفعة قوية.

لربما تتساءلون الآن، ما الذي تفعله هذه الفتاة بين القنابل والصواريخ، دعوني أخبركم، إذ أنني أقوم بما يقوم به أي شخص… أول ما وصلت في الليل حدث هجومان بالصواريخ، وأحسست بأن دمي تجمد، وبعدها جمعت نفسي، وفي صباح اليوم التالي أخبرت أهل البيت بما أحسست فضحك الجميع وقالوا لم يكن هذا شيء يعد، فقبل شهر حدث حوالي 76 هجوم بالطائرات.

وفي الأيام التالية وخلال أحد المحاضرات تجدد القصف بـ 3-5 غارات، وكنت في ذلك اليوم مدعوة على العشاء فلم أغير برنامجي، وتحت القصف تناولنا الطعام، الأطفال اعتادوا على هذا الوضع، فهو كأي يوم من أيام غزة، وكلما اتصلت على أحد معارفي لأطمئن عليه، فيكون الرد أن هذا الوضع الطبيعي تعودنا فلا تقلقي.

حتى الأطفال في الشوارع كانوا مستمرون في اللعب، في ذلك اليوم كبرت لأنه في ليلة 15 تموز، كنت على جسر البسفور – المعروف باسمه القديم – مع شعبنا وشرطتنا نناضل حتى الصباح تحت النار وقصف طائرات F16 ، "قائد الأمة" ولتأمين دوام استقرار بلدي الجميل كان لدينا في قلوبنا تمني الشهادة، أما في يوم تحاصرنا بالقنابل فكان شعوري وحتى النخاع هو ذا: يجب علينا أن نعيش جميعاً كالبشر وبعدها إن أتى الموت فليكن بشكل جميل إن شاء الله. فكانت رغبتي الشديدة ومن أجل الإنسانية أن أقوم بضرب الظلم صفعة قوية.

أحياناً نعيش الموت بتركيز في وقت يكون مطلوب منا تقديم الكثير للبشرية، وفقط نجد أننا نشكوا أنفسنا وننتظر الموت.
 

وفي حال أنه لا ينبغي أن نكون عاجزين، ولنعش الحياة بإنسانية ولنحارب الظلم، وحال وجود الكثير من أسبابنا الأخرى! النتيجة الآن أنني أقضي أربعين يوماً جميلاً في غزة وينتظرني العمل على واجباتي وعلى المشاريع الجميلة في حال أن لغتي العربية أصبحت أفضل. أظن أن وزني قد ازداد بسبب الطعام الفلسطيني الجميل. لم أبدأ الرياضة منذ زمن، فكل ليلة ويوم أحب غزة أكثر وأحمد الله لأنه حقق لي ما كنت أتمني من كل قلبي. وعليّ الاعتراف بأنني لم أعش هذه السعادة طوال الـ 25 عام من عمري.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.