شعار قسم مدونات

بين حلب وبيروت وغروزني ومخيم جنين

People walk at a damaged area one day after a ceasefire was announced, at al-Mashhad neighborhood in the rebel-held part of Aleppo, Syria, 14 December 2016. Syrian Observatory for Human Rights said fighting erupted around the final rebel-held area of Aleppo on 14 December as the scheduled ceasefire and mass evacuation of opposition fighters from the area stalled.
بعيداً عن الشعارات وبدون تجاهل الألم والحسرة على كل قطرة دمٍ أريقت هناك؛ كانت الفاجعة بأننا هواة إن لم نكن مراهقين ونرقص على كل إيقاع. قال الحكماء: عدوُ عاقل خيرُ من صديقٍ أحمق! وفي حلب العدو مهووس والصديق مأفون ونساء وأطفال حلب ضاعوا بين الركام، والبراءة قتلت، والعفة انتهكت!
 

العدو المهووس الذي لا دين ولا أخلاق ولا قيم إنسانية لديه يمكن الاحتكام لها أو التعويل عليها؛ بل ولا قيمة حتى لجنوده الذين يلقي بهم للمحرقة، ويتسلح بمرتزقة رخيصو الثمن جاء بهم من كل حدبٍ وصوب، وقد ارتكب المجازر تلو المجازر ضد شعبه من قبل؛ بل واستخدم الأسلحة المحرمة دولياً لقتل الأطفال وهو مدعومٌ من حلفاء لا يقلون وحشيةً عنه فالقصير تشهد والفلوجة وغروزني.
 

مجرد فكرة التعويل على قوة خارجية يناقض أبسط مبادئ الثورة وهذا النوع من الصراع؛ فالثورة يجب أن تعتمد على ذاتها وأن تعول على قوتها وصبرها وحاضنتها الشعبية

والصديق مأفون عاجز؛ مسلحٌ بالدعاء والبكاء والشعارات، يتحدث عن أحلام وأساطير عن أحداث آخر الزمان متجاهلاً هذا العصر وقوانينه وتعقيداته. قد نجد الأعذار والمبررات الكثيرة لكن الحقيقة لا يمكن انكارها هي أن هذا الصراع له قواعد ومبادئ أساسية كان لا بد من الالتزام بها من الطرف الضعيف على الأقل بسبب ضعفه، فالقوي أقدر على حمل أعباء التجاوز للقوانين لكن الضعيف سلاحه القوانين.
 

إن مجرد اتخاذ بقعة جغرافية ما قاعدة من قبل الطرف الضعيف وهو الثوار والتحصن بها ولا سيما مدينة يناقض أبسط مبادئ الصراع غير المتكافئ لأن العدو الأقوى سيجد من الأسلحة ما يكفي لحسم المعركة ولو بعد حين إن لم يكن هناك قوة خارجية موازنة يمكنها أن تتدخل لنجدة الطرف الضعيف.
 

وإن مجرد فكرة التعويل على قوة خارجية يناقض أبسط مبادئ الثورة وهذا النوع من الصراع؛ فالثورة يجب أن تعتمد على ذاتها وأن تعول على قوتها وصبرها وحاضنتها الشعبية وليس على أي طرف خارجي إن لم يخذلها فقد يتاجر بها أو يحرف بوصلتها باتجاه معارك ليس للثورة فيها ناقة ولا جمل.
 

وإذا أخذنا الأعذار والمبررات من أن النظام كان ضعيفاً وقد سقط فعلاً منذ عام 2012، وأنه لولا تدخل إيران وميليشياتها وشراذمها التي جمعتها من مناحي الأرض لأصبح النظام في خبر كان، وأنه لولا التدخل الروسي لما احتملت إيران الثمن ولخرجت من سوريا تجر أذيال الخيبة والهزيمة، إلا أن ذلك لا يغير في قوانين هذا الصراع شيء.
 

وإن التدخلات الخارجية وظهور داعش وهي الضربة الاستراتيجية الأكبر التي تعرضت لها الثورة السورية، حتى أكبر من سقوط حلب إذ حولت الصراع في سوريا من ثورة شعب ضد نظام فاسدٍ مجرمٍ إلى صراعٍ دوليٍ ضد ما يسمى بالإرهاب، بل ولساحة تصفية حسابات وحروب بالوكالة بين مختلف القوى العالمية والإقليمية؛ إلا أن هذا لا يعفي الثورة من مسؤوليتها عن تجاهل قوانين وقواعد هذا الصراع؛ فهي حتى لم تستطع أن تتوحد ولم تستطع أن تخلق زعيماً لها أو إيدلوجيا توجهها وهذا زاد من ضعفها رغم الكم والنوع في الأسلحة والرجال.
 

سقطت غروزني بيد القوات الروسية نهاية القرن الماضي بعد بسالة وصمود منقطعي النظير والسبب أن الثوار اتخذوها معقلاً وتحصنوا فيها.

لقد سقطت بيروت عام 1982 عندما اتخذتها الثورة الفلسطينية قاعدةً لها وتحصنت فيها، وربما لنفس السبب من التعويل على أخلاق العالم ولا سيما العدو أو على تدخل حلفاء يبيعون الوهم، وكانت النتيجة إبعاد الثورة عن لبنان وعن فلسطين والمنطقة، ومجازر في مخيمات صبرا وشاتيلا وسجن المخيمات الفلسطينية في معازل لا تصلح لعيش البشر وهو أقل ما يمكن أن يقال فيها.
 

وسقطت غروزني بيد القوات الروسية نهاية القرن الماضي بعد بسالة وصمود منقطعي النظير لنفس السبب هو: أن الثوار اتخذوها معقلاً وتحصنوا فيها وكانت النتيجة أن محيت عن الأرض وأعيد إنشاؤها من جديد. وهذا مخيم جنين الشهيد يشهد على عجز القيادة ومراهقة المقاومة الاستشهادية البطلة فسقط تحت جنازير دبابات شارون.
 

وقد يقول قائل ماذا عن غزة والمقاومة هناك؟ ألم تتخذ من المدن قاعدةً لها تتحصن فيها! نعم إنه السؤال المشروع فغزة التزمت بقواعد الصراع كلها باستثناء هذه القاعدة؟! الحقيقة أن ما جرى على غير غزة يمكن نظرياً أن يجري على غزة ولكن غزة استطاعت أن تمنع هذا المصير بعدة وسائل فضلاً عن ظروف أخرى ليست هي من صنعها!
 

فغزة لا تقاتل لإسقاط دولة الاحتلال وإن تمنت ذلك! وغزة ليست جزءاً من دولة تمردت عليها! ودولة الاحتلال لا ترى بغزة جزءاً منها لا بد من عودته مهما كلف الثمن! كما أن دولة الاحتلال لا ترى بأن غزة تهديد وجودي لها وإن صرحت بذلك!
 

إن سقوط حلب وغيرها ليس نهاية المطاف وإنما ثمن لقصور ما، ولا بد أن الثورة السورية كغيرها من الثورات في التاريخ تتطور ذاتياً وتتعلم من أخطائها وما زالت في بدايتها

وكلا الطرفين خطا لنفسيهما خطوطاً لا يتخطيانها؛ فهما يتفاوضان بشكلٍ غير مباشر ويتفقان على التهدئة تلو التهدئة ويديرون صراعاً ليس صفرياً حتى الآن على الأقل، ويدرك كل طرف محدودية قوته ويتصرف بناء عليها؛ فالاحتلال ليس مستعداً لدفع ثمن احتلال غزة؛ ولا سيما في الأرواح وغزة لا تغامر بمواجهة مفتوحة دون سيطرة، وتعرف كيف تضبط نفسها بحيث لا تجعل العدو يفقد كل الخيارات ولا يبقى امامه الا احتلالها بكل ثمن ولا نتجاهل او نتناسى اهم سلاح للمقاومة في غزة وهو الانفاق الذي نجاها من كل محاولات الاحتلال لتصفيتها.
 

ومن جهة أخرى فإن غزة لم تعول على أحد غير الله، ومن بعده على سلاحها ورجالها، ولم تختلف ولم تتنازع وقادت كل الحروب بشكلٍ موحد وبتنسيقٍ عالٍ بين الفصائل، وفشل العدو باختراقها سواء عن طريق داعش أو عن طريق حلفائه من شركاء مشروع التسوية مما أعطى المقاومة قدرةً أكبر على التحكم في إدارة الصراع وعدم إخراجه عن السيطرة أو حرف بوصلته.
 

في النهاية حظيت غزة بعدوٍ، عاقل ولم تتأثر بالأصدقاء الحمقى فأدارت صراعها بذكاء رغم كل الاثمان التي دفعتها. وفي النهاية لا بد من التأكيد على أن غزة لم تصل لهذا الحد إلا بعد سنوات طويلة للثورة الفلسطينية؛ فلم تكن هذه المعركة الأولى فلسطينياً مع الاحتلال.
 

ومن جهة ثانية، إن سقوط حلب وغيرها ليس نهاية المطاف وإنما ثمن لقصور ما، ولا بد أن الثورة السورية كغيرها من الثورات في التاريخ تتطور ذاتياً وتتعلم من أخطائها وما زالت في بدايتها قياساً على كل ثورات الشعوب في العالم.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.