شعار قسم مدونات

ما هذا بَشرا

blogs - road
بَينَما ذِئبٌ كانَ يَسعى في طَلبِ طَعَامِهِ مُتجوِّلاً عندَ حافَّةِ الغابة، إذ تَحَسَّسَ انفهُ رائحَةَ بَشَر. ثُمَّ ما لَبِثَ أن سَمِعَ صَوتَ طِفلٍ بَشريٍ يَبكي. فَاقتَرَبَ مِنهُ بِحَذَرٍ فَوَجَدَ طِفلاً صَغيراً مَلفُوفَاً بِقطعَةٍ سَميكَةٍ مِنَ القِماش، قد احمَرَّ وَجهُهُ مِنَ البُكاءِ، وخَفَتَ صَوتُهُ مِن كثرةِ الصُراخِ، وابتَلَّت وَجنَتَيهِ بِدُمُوعِهِ. كانَ الذِئبُ يَعلَمُ انَّ البَشَرَ لا يَترُكونَ أطفالَهُم في العَراء، لِذلِكَ انتَابَهُ الخَوفُ والحَذَر مِن وجودِ أهلِ الطِفلِ بِالقُرب مِن المَكانِ، فَقامَ بِجَولةٍ استكشافيةٍ حولَ المكانِ فَلَم يَجِد أحداً.

فَعادَ إلى الطِفلِ وهو مُستَغرِبٌ مِن هَذهِ الحالةِ، إذ لَم يَسبِق لَهُ أن رأى طفلاً وحيداً في الفلا. ولكنَّ صَوتَ قَرقَرةِ بَطنِهِ الخَاويةِ كانَ أعلى مِن صَوتِ استِغرابِهِ، فقالَ في نَفسِهِ لعلَّ فيهِ مِنَ اللَّحم ما يَسدُ الرَمقَ ويُذهِبَ الجوع . وعِندَما فَتَحَ فَكَّيه وهَمَّ بِقَضمِ رأسِ الطِفل، نَظَرَ في عينيهِ فَاستَوقَفَتهُ براءةُ وَجهِهِ، ولألأةُ مُقلَتَيهِ المُغرَورِقَةِ بِالمَدع، فَتَوَقَّفَ عَن الفتكِ بهِ وتَردَّد. ثُمَّ قَامَ بِسَحبِ طرفِ القِماشِ وغَطَّى بِها وَجهَ الطفل كَي يَستَطيعَ قتلَهُ دونَ النَظر إليهِ، إلا أنَّ صُورتَهُ لَم تُفارِق مُخَيّلَته، فَأحجَمَ عن قتلهِ ثُمَّ أقدَم ثُمَّ أحجَم ، وبَعدَ عِدةِ جَولاتٍ مِن التَرَدُدِ غَلَبَ قَلبُهُ بَطنَه، وقَرَرَ أن لا يأكلَ الطِفل رحمةً بِهِ. ولَم يَتَوَقف عِندَ هَذَا الحدِ بَل قَرَرَ أن يُعيدَهُ إلى أهلِهِ قَبلَ أن يَقتُلهُ الجوع.

تَقَدَّم إلى ساحَةٍ مَكشُوفةٍ ووَضَعَ الطِفلَ فيها على أملِ أن يَراهُ أحدُ المارةِ ويُنقِذهُ، ثُمَّ انسَحَبَ مِن المَدينةِ خِلسَةً لأنَّه لا يأمَن البَشر.

حَمَلَ الطِفلَ بِلطفٍ مِن القِماشِ الذي يَلُفُهُ وانطَلقَ بِهِ إلى أقربِ تَجمُّعٍ للبشر. وَصَل إلى أطرافِ إحدى المُدن، لَكِنَّهُ لَم يَلحَظ حَرَكةً للبشر، وبِالكادِ كانَ يَشُمُّ رائحتهم، الامرُ الذي شَجَّعَهُ على دُخولِ المَدينةِ. فَتَسَلَّلَ تَحتَ ظِلالِ الجُدرانِ والأشجار والطِفلُ في فِيهِ دون أن يُلاحِظَهُ أحد.

الغَريب انَّهُ لَم ير أحداً في الشوارعِ، ولَم تَكن المَدينَةُ كَما كانَ يَتَخيَّلها مِن كثرَةِ البَشر وزَحمَةِ الطُرق وسُطوعِ الانوار، بَل كانَت بَعضُ البُيوتِ مُهَدَّمَةً وبَعضُها مَحروقَةً، والمدينة اشبَهُ ما تَكونُ بِمَدينةِ أشباح.

تَقَدَّم إلى ساحَةٍ مَكشُوفةٍ ووَضَعَ الطِفلَ فيها على أملِ أن يَراهُ أحدُ المارةِ ويُنقِذهُ، ثُمَّ انسَحَبَ مِن المَدينةِ خِلسَةً لأنَّه لا يأمَن البَشر.

وبَينا هو كذلكَ إذ سَمِعَ صَوتَ صُراخٍ لِرِجالٍ مِن أحدِ البُيوتِ، فَدَفَعَهُ الفُضولُ لاستِكشافِ الصوتِ عَلَّهُ يَعلمُ مَا حَلَّ بِهذهِ المَدينة الخَاويةُ على عُروشِها. فَاقتَرَبَ مِن نَافِذَةِ ذلكَ البَيتِ واستَرَقَ النَظَرَ فَرأى بَشراً يَقطَعونَ رُؤوسَ بَشرٍ مِثلَهُم، فَصُعِقَ مِمَّا رأى وأصابَتهُ الدَهشَةُ بِالشَللِ. وبَعد أن استَفاقَ مِن صَدمَتِهِ، استَجمَعَ اطرافَهُ التي لَم تَعُد تَقوى على حَملِهِ، وانسَلَ هارِباً غَيرَ مُعَقِبٍ وغيرَ مصدِّق عَينَيهِ إلى أن استَوقَفَتهُ أضواءٌ مُلونةٌ تَشعُّ من إحدى النَوافِذِ، فاستأنَسَ لَها وقَرَرَ أن يُلقي نَظرةً لذلكَ الضَوء الجَميل لَعَلَهُ يَنسى ما رأى من الهَولِ الرُعب.

وعِندَما نَظَرَ مِن تِلكَ النَافِذةِ، رأى شَاشةً كبيرةً بِألوانٍ زاهيةٍ، تُطِلُ مِنها امرأةٌ حَسَنَةُ المُحَيَّا، تَتَكلَّمُ بِكلامٍ لا يَفهَمهُ، ثُمَّ ما تَلبثُ ان تَختَفي المرأةُ لتَظهَر صُور لجسمٍ كبيرٍ يَطيرُ في السَماءِ ويُمطِرُ الأرضَ بِوابلٍ مِن نار، ثُمَّ عادَت المرأة وتَكلمَت قليلاً واختَفَتَ مِن جَديدٍ لتَظهَرَ صُورٌ لسَيارةٍ مُسرعةٍ نَحو مَجموعةٍ من البَشر ثُمَّ تَخرجُ منها نار كبيرة وتَعصِفُ بِهم بعيداً، ثُمَّ ظَهَرَ مَجموعةٌ من البَشرِ يَحملونَ بأيديهِم أشياءً غريبةً تُصدرُ أصواتاً عاليةً، والكثيرَ الكثيرَ من المشاهدِ النارِ والدُخانِ والدَّمار والقَتل. لَم يَستَطع الذِئبُ أن يُكمِلَ المُشاهَدة، فَعادَ إلى الوراءَ مُبتُعِداً عن النَافِذةِ بِخُطى مُرتَجِفة وفي ذِهنِهِ ألفُ سُؤالٍ عن الأشياءِ التي رآها، أهي حِقيقةٌ أم خَيال؟!، أهي هُنا ام في مَكانٍ بَعيد؟!.

عِندها تَذَكَّرَ الطِفل الَّذي تَرَكَهُ في السَّاحة، وعَلِمَ أنَّهُ قَد وَضَعَهُ في مَكانٍ خَطيرٍ جداً، فَهَرعَ مُسرِعاً نحوهُ دونَ أن يَكتَرِثَ أن يَراهُ أحد، وعِندما وَصَلَ مكانَ الطِفل وجَدَ مَجموعةً مِن كلابِ المَدينةِ الشَّارِدَةِ قَد فَتَكَت بِالطِفل وتَقاسَمَت اشلائَهُ حَسَب قانونِ القِطعَةِ الكبيرةِ للأقوى.

نَظَر الذِئبُ إلى ذَلكَ المَشهَد بِعيونٍ مَليئةٍ بِالدموعِ حُزناً على مَوتِ الطِفل. ثُمَّ سَارَ نَحو غابَتِهِ كئيباً بِقَلبٍ مَكلومٍ ومُخَيّلةٍ مُشَوشَةٍ لَم تَستَطع هَضَمَ ما دارَ فيها مِن صُورٍ وأسئلةٍ واستغرابٍ عن الجُنونِ الذي حَلَّ بِالبَشر . وبَعدَ أن خَرجَ مِن المَدينةِ على بُعد 100 متر انفَجرَ عَليهِ لَغمٌ أرضي فَمات .

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.