شعار قسم مدونات

وديع حداد في ثياب يحيى عياش

blogs - ayyash

(1)

 في مثل هذه الأيام قبل 29 عاما، اندلعت شرارة الانتفاضة الفلسطينية الأولى في جباليا، شمال قطاع غزة، عندما دهست شاحنة إسرائيلية سيارة كان يستقلها عمال فلسطينيون، لتشتعل بعدها الأراضي المحتلة.

 

لم تكن الانتفاضة امتدادا للثورة الفلسطينية التي أطلقتها رصاصات قوات "العاصفة" التابعة لحركة فتح مطلع يناير 1965، بقدر ما كانت إسدال ستار عليها، وافتتاح فصل جديد من فصول المشروع الفلسطيني لإصلاح ميزان الكون. كانت بداية حقبة جديدة انتقل فيها مركز ثقل الحركة الوطنية الفلسطينية من الخارج إلى الداخل الفلسطيني.

 

(2)

حفل تاريخ الثورة الفلسطينية بمناضلين أكفاء، لكن وديع حداد يبرز من بينهم كممثل أيديولوجي أكثر تعبيرا عن المقاومة والعنف المبرر أيديولوجيا في إطار يساري

تزامنا مع ذلك، كانت القيادة الأيديولوجية للحركة الوطنية تتجه إلى اليمين الإسلامي، في ظل متغيرات داخلية وإقليمية وعالمية لم يكن ممكنا معها استمرار الهيمنة اليسارية؛ خاصة بعد أن توجهت رصاصات هذا اليسار إلى صدور الفلسطينيين في حرب المخيمات.

 

تزعمت حماس التي وزعت بيان تأسيسها في الوقت الذي اندلعت فيه الانتفاضة، الحراك، بصحبة الجهاد الإسلامي، قبل أن تؤسس الفصائل التقليدية القيادة الموحدة. ولم تكد الانتفاضة الأولى تختتم فعالياتها بتوقيع أوسلو، حتى صار واضحا أن حماس والجهاد الإسلاميين هما الممثلان الحقيقيان للمقاومة الفلسطينية كتيار فاعل يتجاوز الموقف النظري إلى ممارسة المقاومة.

 

(3)

كانت العلاقة بين المقاومة والأيديولوجيا محل جدل صريح أو ضمني في الحركة الوطنية الفلسطينية، سواء قبل هذا التحول الأيديولوجي من اليسار إلى اليمين أو بعده؛ وقد غدا فعل المقاومة ذاته مشروطا بأن ينتمي إلى أطر أيديولوجية محددة ليكون محل اعتراف.

 

( 4)

تمثل الأيديولوجية في أحد وجوهها، قراءة نسقية للقيمة تربطها بسائر القيم ضمن رؤية محددة للعالم، فهي تعيد تعريف الأشياء لتمنح المعنى تمامه: أن تحافظ على الحق وأن ترفض الظلم هي قيم أساسية، لكن أن يسمى هذا جهادا في سبيل الله بين جماعة من المسلمين وأخرى من غير المسلمين تعتدي عليهم، أو أن يسمى هذا تحررا وطنيا تقوم به جماعة وطنية ضد محتل أجنبي، أو أن يسمى هذا كفاحا من قبل مستضعفين ضد طبقات مهيمنة تحاول السيطرة على العالم لإقامة إمبراطوريتها الاستغلالية؛ هذا هو الأيديولوجية.

 

للأيديولوجية وظائف نظرية وعملية متنوعة؛ فهي تنتج نظريا أدوات تحليل، عندما نفهم مثلا من خلالها سلوك الأجنبي كمستعمر، أو نمسك بدوافعه الدينية أو المادية، وهي أيضا تضمن حماية القيمة من عقلنة مزعومة تسحق القيمة ذاتها، عندما يحاول أحدهم أن يبرر مناوراته برجماتيا.

 

أما عمليا، فتضمن الأيديولوجية تماسك الحركة المنظمة التي لا يمكن أن تتحقق القيمة واقعيا من دونها، وهو ما يتغافل عنه من يخسرون المعركة الأيديولوجية فيتنحون عن الحركة المنظمة، مبررين رفضهم لها بمبررات رومانسية. كذلك توفر الأيديولوجية أدوات التعبئة؛ فكيف يمكن أن تحرض الجماهير على الصمود والمواجهة دون ديباجات عاطفية، دينية أو قومية، أو غير ذلك؟!

 

(5)

 يمكن المفاضلة عبر الأيديولوجيات من ناحية اقترابها من القيم وتمسكها بها، لكن عمليا، تبقى الأيديولوجيات أقنعة يرتديها من يقومون بممارسة القيمة بحسب الظرف التاريخي. أما القيمة فتبقى هي المنطلق والغاية.

 

(6)

حفل تاريخ الثورة الفلسطينية بمناضلين أكفاء، لكن وديع حداد يبرز من بينهم كممثل أيديولوجي أكثر تعبيرا عن المقاومة والعنف المبرر أيديولوجيا في إطار يساري. وقد استحق حداد اعتباره إرهابيا من قبل بعض زملائه أنفسهم لا من قبل الخارج فحسب. فالتحرك على صعيد عالمي كما حاول حداد في علاقاته بمنظمات يسارية من قبيل الجيش الأحمر والمناضل الفنزويلي كارلوس الثعلب، والعنف المشهدي في اختطاف الطائرات وتفجيرها واقتحام المطارات واحتجاز الرهائن، كانت سمات واضحة لمن سيستحق لاحقا لقب "الإرهابي".

 

يمكننا فحسب أن نتصور وديع حداد في التسعينات، بعد انتهاء عصر الحماسة اليسارية، قابعا في بيت فلسطيني بسيط بالضفة أو القطاع؛ هل كان يمكن لوديع وقتها إلا أن يكون كيحيى عياش؟ المهندس الفلسطيني البسيط الذي قرر أن يخترع أداته الخاصة للمقاومة بعد أن تخيل المحتل أنه قد نجح في حرمان الفلسطيني من كافة أسلحته.

 

ربما لا يكون لدى الأغلب الأعم ذلك الوعي-لذاته بمنطق هيجل، إلا لدى شخصيات قليلة تبقى كرموز نادرة لوحدة الصف الفلسطيني بقيمه وهويته، لكن الوعي بذلك في ذاته، بمنطق هيجل أيضا، هو ما يسكن عقل كل مناضل فلسطيني، أو على الأقل أغلبهم.

 

لقد كان وديع حداد مسيحيا يساريا يجيد التخفي حتى يكاد يكون مجهول الصورة، كما كان يحيى عياش المسلم الإسلامي يجيد الاختفاء

قد تنقذنا تلك المقارنة بين هاتين الأيقونتين من ضيق الأفق الذي يهيمن على النظر إلى العمليات الاستشهادية والقذائف الصاروخية وغيرها من التعقيدات الأخلاقية المرتبطة بالمقاومة في فلسطين؛ لندرك أنها ليست سوى أدوات لا تتحدد أيديولوجيا بقدر ما يحددها وفرة أدوات المقاومة، وهو ما يتحكم به العدو القوي.

 

لقد كان وديع حداد مسيحيا يساريا يجيد التخفي حتى يكاد يكون مجهول الصورة، كما كان يحيى عياش المسلم الإسلامي يجيد الاختفاء، فهل يمكننا أن نتخيل أحدهما يحمل ذات الهموم والقيم ويحضر محل الآخر؟!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.