شعار قسم مدونات

من أجل ماذا كل ذاك الشقاء؟

blogs - human

إننا بعد مرحلةٍ عمرية ما تتغير نظرتنا شاملة إلى الحياة ومكنونها، نتطور بفعل الزمن وحوادثه، وتتغير ملامحنا ومعالم تفكيرنا.
 

ربما تتحول بعدها تلك الأحلام التي كنا تحت سطوتها طيلة حياتنا إلى أسباب غير كافية، تقف عندها وتتساءل "من أجل ماذا كل ذاك الشقاء؟" لربما ذاك الطالب الذي بذل أقصى جهده من أجل الالتحاق بجامعةٍ ما، يقف أمام بابها كل يوم ويسأل إن استحقت ذلك العناء يوماً، إن استحقت أن يحمل متاعه ويودع أهله، ويفارق رفق أمه إلى قسوة المدينة البعيدة حيث يقع حلمه أو ما كان حلمه في يومٍ ما.
 

في مرحلةٍ فارقة، يقف المرء منا في مفترق الطريق، وتقتله الحيرة إن كان هنالك ما يستحق! بعضنا محظوظ قد اهتدى إلى رشده، ولكن بعضنا من عاش عمره كاملاً دون أن يعلم.
 

نحن بحاجةٍ إلى الله، لأنّ ارتباطنا الوثيق بالله يمنحنا كل الدوافع، ويجعل لتلك الحياة البائسة معنى وقيمة، ويحول تلك الأفعال الاعتيادية المملة إلى سلسلة كفاحٍ متصل في سبيل هدفٍ ما نعيش به ولأجله.

لربما تلك الأحلام كلها لا تستحق في ذاتها وإنما فيما تُخفي وراءها. نبدأ في النضج ونعلم أنّ الله قد منّ علينا بشيء من الحكمة حين ندرك أن السعيّ في سبيل تلك الأحلام التقليدية ما كانت سوي خطواتٍ ارتبطت بهدف أعظم مما قد تبدو عليه في حد ذاتها، حين تبدأ باكتشاف كنة ذاتك ووجودك، وتدرك أنّك وحدك قد عُنيت بهدفٍ ما، بخيطٍ ما في هذا الكون، خيط يربطك ويُبقيك متزناً إذا اختلت قوانين الجاذبية من حولك.
 

كل تلك التفاصيل الصغيرة والأحلام الاعتيادية لا تعني أي شيء ولا تستحق أي عناء إن حاربت من أجلها منفردة، وحتى إن دفعك عدم النضج إلى ذلك طوال عمرك السابق، فإن صفعةً على وجهك كافية جدا لتعلم أن كل دوافعك لم تعد كافية.
 

تبدأ حينها برسم هدفٍ أسمي، تتطلع لأمرٍ أعظم، ولا يُضيرك طول الطريق ولا تُرهقك هول المصاعب وتتابع الابتلاءات. تقاطع مسيرتك محطاتٍ عدة، في كل مرة تسأل نفسك السؤال ذاته "من أجل ماذا كل ذاك الشقاء؟"، وتعيد الكرة، تسعى وتضرب في كل ميادين الأرض، فمراتٍ يُصيب سعيك ومراتٍ يخيب.
 

ولربما يعتريك اليأس ويتطاول عليك، فتدور في دوامات التيه لا تدري من أين أتيت، قاصداً ماذا! أذكر ذلك الطبيب ذا الأربعين عاماً، كم بدى أمامنا يوم ميلاده مثاليا ناجحاً، وماذا قد يريد المرء أكثر من هذا؛ مكانة مرموقة وزوجة جميلة وأطفال رائعين؟! لكنه لم يبدُ لي سعيداً لوهلة، وحين تبسم قائلاً "أربعون سنة من الا شيء."، أدركت أن كل ذلك لم يكن سوي شقاء بلا سبب!
 

وحتى لو مثلت كل تلك النعم أسباباً كافية فماذا لأهل الشقاء، الذين لم يدركهم الوصول بعد أن أرهقهم طول السعي؟ ربما لهذا فنحن بحاجةٍ إلى الله، لأنّ ارتباطنا الوثيق بالله يمنحنا كل الدوافع، ويجعل لتلك الحياة البائسة معنى وقيمة، ويحول تلك الأفعال الاعتيادية المملة إلى سلسلة كفاحٍ متصل في سبيل هدفٍ ما نعيش به ولأجله، وحتى أنّ الموت لا يصبح سيئاً لأنك تعلم أنك حتى حين ينقضي أجلك، فالله باقٍ وعملك لن يصبح هباءً منثورا.

يقولون "إن لم يكن لديك شيء لتموت من أجله، فإنك لا تمتلك سبباً لتعيش من أجله." ربما تلك الأسباب التي تدفعنا لنموت من أجلها بنفسٍ راضية هي التي تستحق الحياة حقاً، ولو كان من سببٍ فلا أعظم من وجه الله.
 

كل الدوافع الأخرى تزول وتتخلى عنك إذا تعثرت أو تقطعت بك الطرق، إلا الله. إننا خُلقنا بأرواح تعلقت بوجود الله وروحه، وتماسكت بالإيمان بوجوده وعدله والطمع في رحمته، فإن كان من أمر يستحق الموت دونه فهو الله، وإن كان من سببٍ يُبقينا على قيدِ الحياة مهما توالت علينا النوائب فهو الله.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.