شعار قسم مدونات

يوم استبحت جيب أبي!

blogs - father
حين يشتد الزمهرير في ليالي الشتاء الوعرة، تضيق الأضلع بما اكتست ويصبح مجرد المأوى ترفا تلاحقه أعين المكلومين، يمر بخاطري أولئك الذين ينامون مجازا على ضفة قلب محزون..

رفرفرت في بالي اليوم بشدة "حادثة" مرّ عليها ربع قرن!. كانت المرة الوحيدة التي أسرق فيها دراهم من بزّة أبي العسكرية، كان رجل درك وكانت بدلته تخيفني، حضنها دائم البرود، فاتر رغم حرارة أبي وعطاءاته اللامنتهية، وأنا التي أخاف المساس بغيري قيد أنملة، كيف اعتديت يومها على هيبة الدولة واستبحت خزائنها!

كيف حققت العدل بيديّ الصغيرتين في بلاد كسائر بلاد العرب يفترس قويّها ضعيفها، يُسحق المعدم ويُدكّ بلا رحمة! كيف انتقمت من الوطن في هيئة أبي واقتصصت من بطنة الغني لأنتقم لجوع الفقير! انتقمت من وطن يئد أبناءه ويقودهم بسادية إلى الموت غير الرحيم، وطن تتوالى فيه السنوات العجاف..

مددت يدي الصغيرة إلى جيب بزته المعلقة على مشجب غرفته، سحبت الدراهم الستّ بأصابع مرتجفة، قيمة ما فقد العجوز المتعب كما خمنت يومها وأنا أتصبب عرقا يكاد الرعب يقتص مني، مدركة تماما فداحة ما أقدم عليه ومطمئنة في آن، اعتراني تناقض عظيم، السرقة عمل سيّء قلت لنفسي ولكنها قد تجوز في حالات معينة أو كذلك أردتها..

هذا العالم الجموح المُنقاد وراء العاصفة، المغيّب ذو الهوية المزيفة يركض نحو حتفه بخطى راضية، يحتكر سادته الفرحَ في قناني مُحكمة، عالم سيصحو يوما على مدن من ركام.

كان مسنّا يشرف عمره على نهايته، ضريرا أو شبه ذلك لا يكاد يبصر ما حوله، اختار لنفسه زاوية حيث يفترش الأرض بما جمعه من قطع "الكرتون" وكنت أمر به صبحا وعشية في طريقي إلى المدرسة أمنحه ثمن البوظة أو الشوكولاتة التي كنت أدمن عليها وما شفيت، علمني دون أن يدري كيف أؤثر الغير على نفسي وكيف أمنح ولو بي خصاص، كيف أتنازل عن رغبات ضارية لأخرى أشد ضراوة، رغبة العطاء، علمني كيف أحمل أوجاع الآخر معه..

ذات حيرة رأيته يلتفت يمنة ويسرة وكأنه يبحث عن شيء ضاع منه، يحاول الاتكاء على عصاه الخشبية فلا تسعفه قدماه، اقتربت منه وسألته ببراءة عما يبحث عنه وإن كان بحاجة إلى مساعدة، فرد علي بصوت متهدج تكاد تخنقه العَبرات: فقدت صرّة نقودي أو ربما سُرقت مني!.

عدت إليه ظهر ذاك اليوم وفي جيب مئزرتي الوردية الدراهم الست، دسستها في يديه، ذرفت دمعا غزيرا جففته بكُمّ سترتي، قبيل استئناف الفترة الدراسية لما بعد الظهيرة، لئلا أعرّض نفسي للمساءلة من طرف المعلم.. لم يرني العجوز أبكي، لكنه أحس بحرارة يديّ، تمتم بأدعية ألهبت قلبي الصغير..

كان ذاك اليوم آخر عهدي به، لم أره بعدها، هل غيّر مكانه بحثا عن مخدع أكثر رحمة بعيدا عن قطّاع الحياة؟ هل فتّته الانتظار؟ هل استسلم لرائحة الموت التي كانت تحوم حول رأسه؟ أكان يشهق تحت شراشف السماء دون أن تلسعه غيمة ماطرة؟. أسئلة لا زالت تطنّ في رأسي!.

كم يشبه اليوم الأمس، كبرت الطفلة التي لم تكن تتجاوز السنوات السبع وظلت حُرقة العجوز تلازمني، تكبر معي، تجعلني ألعن العالم الذي يغلق أبوابه في وجه الهواء، يصدّر الأحزان الشاذّة ويلقي بمثل هؤلاء البؤساء على طرق خالية، يتدربون في نفق الموت على الحياة، لا ترى منهم سوى إيماءة تضج بالموت، أناس تبعثروا بين شتاء وصيف طويلين ينتظرون ربيعا قد لا تسعفه العواصف ليزهر، هذا العالم الجموح الذي ينقاد وراء العاصفة، المغيّب ذو الهوية المزيفة يركض نحو حتفه بخطى راضية، يحتكر سادته الفرحَ في قناني مُحكمة، عالم سيصحو يوما على مدن من ركام.

أهو بخير حيث هو الآن وهل حدّث ربه الرحيم عني؟ أنا لم أنسه، كنجمة تقاسيمه المتعبة ظلت تتبعني، لم أخَف النظر إليها، فقط أصغي إلى صمتها وأسمع الشيء الكثير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.