شعار قسم مدونات

بين الشيخ والتلميذ..!

blogs- صفاء النفس

قال التلميذ: شيخي. لا أجد في نفسي لذّة الطّاعة وأنس الاقتراب فما علاج هذا الاضطراب؟ قال الشيخ: أي بني، حقّق طاعة ربّك في قلبك قبل بدنك، وتخلّق بأخلاق الباطن قبل الظّاهر، وكن خادم النّفس لا خادم الجسد، واطلب من ربك العون والمدد..

قال التلميذ: وما طريق سمو النّفس؟ ففال الشيخ: طريق ذلك التّزكية، فـي "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا".. وقد قال الشاعر:
يا خـادم الجسم كـم تشقى بخدمته *** أتطلب الرّبـح مما فـيه خســران
أقبل على النّفس واستكمل فضائلها *** فأنت بالنّفس لا بالجسم إنسـان
 

الله أمرنا بالإيمان به بالعلم لا بالتقليد.. فإن تحققت المعرفة استنار القلب بنور اليقين، وسلم لله جل في علاه، وترك التدبير عليه.

واعلم بني أن الله لما خلق الخلق ميّز الإنسان بالعقل، وجعله مناط التكليف، ومع هذا فإنه غرس فيه الغرائز والشّهوات؛ وهذا مناط الاختبار، وبه يتمايز الأخيار عن الأشرار. وخلق الله الملائكة من نور وجعل فيهم العقول، وجنبهم الغرائز والشّهوات، وخلق البهائم والأنعام، فجعلهم للأجساد خدّام، ولإشباع الشّهوات نُهَّام، وسلبهم العقول والأفهام، فكان الإنسان هو المتوسّط بينهم، فإن طهّر نفسه من الشّهوات البهيمية، سمت نفسه للملائكية، وإن أخلد إلى الأرض دنت نفسه إلى البهيمية، وقد قال خير من زكّى نفسه من البشر كما صحّ في ذلك الخبر: " إن الله لا ينظر إلى أجسادكم، ولا إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم ".. فالله خلق الإنسان في أحسن تقويمٍ، وأسند إليه أن يحسنَ هو تقويم روحه..
 

أي بني، إن طهارة القلوب طريقها الخضوع لعلّام الغيوب، كمال خضوعٍ مع كمال محبةٍ، خضوعٌ للقلب وهو الأساس، وخضوعٌ للجوارح وهي نتيجةٌ لازمةٌ لخضوع تلك المضغة، فإن خضع القلب، واستشعر مراقبة الرّب، صلُح واستقام، وفاز بحسن المقام.. قال التلميذ: شيخي، وكيف يستقيم القلب ويخضع؟

قال الشيخ: اعلم أن استقامة القلب إنما تكون بالمعرفة واليقين والحـب، فإذا عرف العبد حق المعرفة أن الله خلقه لهدف سامٍ وهو العبادة، وأنه أراد بذلك إصلاحه ونفعه ورفعه، وأنه غنيٌ عن عبادة العابدين أصلاً، وعرف أنه مقدِرُ الأقدار ومكور الليل على النهار ومكور النهار على الليل، لا يعزب عنه شيء، ولا يُحَاط بعلمه، ولا يطّلع أحد على غيبه إلا من ارتضى من خلقه، وأنه سبحانه الرازق والمحي والمميت والقوي والعزيز، "وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ"، زاد بهذه المعرفة إيماناً به وتوكلاً عليه..
 

ولذلك فإن الله جعل طريق الإيمان به العلم، وجعله قبل القول والعمل، فقال "فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الله وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالمؤْمِنَاتِ وَالله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ"، فالله أمرنا بالإيمان به بالعلم لا بالتقليد.. فإن تحققت المعرفة استنار القلب بنور اليقين، وسلم لله جل في علاه، وترك التدبير عليه، فإن وسوس له الشيطان بالرزق والمعاش لم يضطرب قلبه ولم يتحير، لأنه قد عرف أن ربه هو الرزاق ذو القوة المتين، وإذا وسوس له وأخافه من عدوٍ، لم يضطرب قلبه؛ لأنه عرف أن ربه يدافع عن المؤمنين، وأنه منجي الصادقين، وهكذا..

من العلامات الظاهرة التي تدل على سمو النفس وزكوها: ذكر الله فلا يُنسى، والالتجاء إليه في السراء وفي والضراء على السواء، وإدمان التوبة والإنابة

فإذا عرف وتيقن زادت محبته وخلُصَت، فكان الوصول إلى الرب همه، وفي التقرب إليه جهده؛ فإنه إن زكت نفسه زكت جوارحه وخضعت، وللحق اتبعت، فأعمال الجوارح وحدها ليست هي الأَمارةُ على القرب من الرب، بل هي بجانب أعمال القلب جنباً إلى جنب.. قال التلميذ: شيخي، وما هي أَمارات النفس الزكية؟ قال الشيخ: اعلم أن الظاهر يوحي بمكنون الباطن..

ولذا فإن من العلامات الظاهرة التي تدل على سمو النفس وزكوها: ذكر الله فلا يُنسى، والالتجاء إليه في السراء وفي والضراء على السواء، وإدمان التوبة والإنابة، فـ "من خافَ أدلجَ، ومن أدلجَ، بلغَ المنزلة"، والتفكر والتدبر في الخلق، وإحقاق الحق، واستواء القول والعمل، في السر والعلن، فكثيرٌ من الناس أصحاب قول إذا رأيتهم، وعن الأفعال هم مبعدون، وبالباطل متلبسون، ينهون الناس ويأتون، وهم في الغفلة وربِك غارقون..
 

وإن أنكروا المنكر أنكروه باللسان والقلب مفتون، ولا يأتون الحق إلا وهم كارهون.. ومن أماراتها أيضاً: الازدياد من النوافل بعد تمام الفرائض، واتباع سنة المعصوم ﷺ شبراً بشبر، وذراع بذراع، ظاهراً وباطناً، والذل على المؤمنين وخفض الجناح لهم، وحسن الظن بهم، وحب الصالحين، وقول الحق ولو كلف الغالي والثمين، " إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ ".. والله المستعان..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.