شعار قسم مدونات

القويُّ الأمين

blogs - chess
ولما كانت ليلةُ إعدام الرجل الذي قال كلمةَ الحق قامت مجموعةٌ مِن أنصارِه بخطفه من المكان الذي كان فيه وبذلك أنقذوا حياتَه وصار واجبًا عليهم أن يجدوا له مأمَنًا..

وكان مِن مُحبيه رجلٌ ذو مكانةٍ عظيمة ونفوذٍ كبير فعرض عليهم أن يستضيفَ الرجلَ في قَصرِه حيثُ لا يمكن أن تحومَ الشبهة فَقَبِلَت المجموعة بذلك وعاش صاحبُهم هناك في أمانٍ كامل إلى أن اكتشفَ أنَّ الرجلَ الذي آواهُ في بيته له مآربُ أُخرى.. هو لن يَشِيَ به ولكنه سيستخدمه لِخدمةِ أغراضِه!

عَلِمَت المجموعةُ بذلك فاتفقوا على أن يَتِمَّ نقلُ صاحبهم إلى مكانٍ آخَر أكثرَ أمنًا وأن يُخبروا صاحبَ القصرِ بذلك فإنْ قَبِلَ فبها ونِعْمَت وإلا قامت المجموعة فورًا بتخليص رَجُلِهِم مرةً أخرى بل وبالقبض على صاحبِ القصرِ نفسِه فهو عليهم هَيِّن..

ما يحتاجُه مَن يتصَدَّر للقيادة.. الدَّهاء والمُداراة والقدرة على ضبط النفس ووضع خُطة لكل السيناريوهات وإشعار الخصم بعكس ما تُخطط له.

وذهب قائدُ المجموعة إلى صاحبِ القصر لِيُخْبِرَه بأنهم يريدون نقلَ الرجل إلى مكانٍ آخَر لِدواعٍ أمنية فَغَضِبَ غَضَبًا شديدًا وأرغَى وأزبَدَ وأغلَظَ للرجل في القول وسَبَّهُ وأهانَه وقال: كأنكم لا تعلمون مَنْ أكون! الرجل سيبقى عندي ولن يخرجَ من هنا أبدًا إلا بأمري حين أرى أنا ذلك مناسبًا.. بَلِّغْ بذلك أصحابَك!

قائدُ المجموعة امتص الصدمة سريعًا وقال له: أنت قائدُنا وكبيرُنا ولا يُمكِن أن نخالفَ لك رأيًا فَليَبْقَ الرجل عندك كما تشاءُ وترى فأنت أَعلَمُ منا بالأمر لِمكانتِك العظيمة ونفوذك الواسع وخبرتِك الفريدة! ثُمَّ ما إنْ خَرَجَ مِن عند صاحب القصر حتى أعطى أوامرَه بتنفيذ ما اتُّفِقَ عليه فأنقذوا رَجُلَهم وأنهَوا أمرَ صاحبِ القصر!

الشاهد في هذه القصة..
أنَّ القائد لم يُناقِش صاحبَ القصر وألانَ له القول وهو يعلم جيدًا أنه سيخرجُ مِن عنده لِيُنَفِّذَ خطته مع أصحابه لكنه كان في حاجة إلى أن يُداريَه فلم يبادلْه تهديدًا بتهديد ولا وعيدًا بوعيد ولا غضبًا بغضب ولا حماقةً بحماقة ولا استعراضًا للقوة باستعراض..

تذكرون الفيديو الذي يظهر فيه الدكتور عصام العريان فك الله أسره مع عمرو موسى وهو يقول له عن مبارك: قل لأصحابك مبارك لن يخرج من السجن إلا إلى القبر! فأين مبارك الآن وأين عصام؟!
ولكنَّ بطلَ قصتنا بقيَ هادئًا ساكنًا حُلوَ الكلام حتى ظنَّ صاحبُ القصر أنَّ الأمرَ قد انتهى ولم يَخْطرْ ببالِه أبدًا ولو للحظة أنَّ نهايتَه قد حانت بعد هذا اللقاء!

هذا ما يحتاجُه مَن يتصَدَّر للقيادة.. الدَّهاء والمُداراة والقدرة على ضبط النفس ووضع خُطة لكل السيناريوهات وإشعار الخصم بعكس ما تُخطط له أنت..

إنَّ القيادة الموهوبة أنْدَرُ مِن الذهب والماس لأنها تنجح في حفظ دماء الملايين بينما يعجزُ غيرُها عن حفظِ دماءِ نَفسٍ واحدة وتقطَعُ وتُنجِزُ في بضع سنين ما يحتاجُ غيرُها لقطعه وإنجازِه بضعَ قرون!
لذلك لم يَكُنْ عجيبًا أَنْ يُشَرِّفَ اللهُ عَزَّ وجلَّ الموهوبين الأَكُفاءَ الأُمَناء بقولِه: إنَّ خيرَ مِنِ اسْتَأْجَرْتَ القويُّ الأمين.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.