شعار قسم مدونات

السيرة

blogs - camels
إن كتابة السيرة الذاتية لهي أمر غريب بعض الشيء، إذ تفصِّل رحلة شخص ما، رحلة اكتشاف تأخذك إلى أماكن غريبة، ويظلّ الأمر بالنسبة إليك مجرَّد ذكرى ترتسم في لا وعيك، بخاصة إذا كنت من ديانة أخرى وتنظر إلى حياة النبي محمَّد صلى الله عليه وسلم.

يطرح سؤال نفسه، ليجيب عن كل مَن ينكر الحقيقة: ما الذي حدث بالضبط؟ في بقعة جرداء من الأرض، وتقريبًا في منتصف العمر التاريخي للحضارة الإنسانية، ما الذي حدث في إحدى ليالي عام 610 عندما نزل الوحي (جبريل) على "سيدنا محمَّد" وتَلَقَّي أول صحيفة من القرآن الكريم في غار خاوٍ في جوف جبل خارج مكة؟ إنها اللحظة الجوهرية في الدين الإسلامي، وإنها بالطبع بعيدة عن التحليل العقلاني للحياة العملية. والسؤال الذي يطرح نفسه في عقل كل شخص يتّسم بالطابع "العلماني": هل هذا شيء يمكن أن يُصَدَّق؟

كلما زاد الشكّ، زاد عمق الإيمان في تفكُّك واتِّضاح المعادلات الشكِّيَّة الموضوعة، فبعد إزالة الشكّ لن يبقى لنا إلا الإيمان، بل "اليقين".

لكن إعطاء البحث حقَّه إن فكريًّا أو عمليًّا لا يُعتبر تعدِّيًا على منطلق أو مبدأ، ولكن التقاء الإنسان مع الإله -كما نؤمن نحن المسلمين أن محمَّدًا النبيّ قد فعل- بالنسبة إلى "العلمانية" ليس حقيقيًّا، بل أمنية خيالية، ولكن بالنظر إلى الوثائق القديمة فما يثير الاهتمام أكثر من الحادثة نفسها هو الذي "لم يحدث"؛ سيدنا محمَّد لم يَطِرْ من الجبل على سحب من الهواء، ولم يأتِ من الجبل يصرخ "الحمد لله"، ولم يكُن مُشِعًّا بأنوار غريبة، ولم تكُن تحفّه وتزفّه إلى أهله محافل من الملائكة، ولا حتى إحساس بالفخر والتكبُّر بحمل نفس الأنبياء، لم يحدث أي شيء مما سبق، يثبت عليه الحكم بـ"الافتراء".

على العكس تمامًا، في جوهر اللحظة كان مقتنعًا في بداية الأمر أن ذلك لا يمكن تصديقه أبدًا، فقد أعطته الطبيعة البشرية في أحسن الأحوال أن ما كان يراه ما هو إلا خيالًا وهلوسة، أو في أسوأ الأحوال أن رُوحَه بدأت بترك جسده، بينما تَصرَّف حين أدرك أنه لا يزال على قيد الحياة تصرُّفًا بشريًّا بأن خرج مرتعدًا من الغار ليهرب إلى بيته من الرعب الذي أصابه، بصرخة يملؤها الخوف لا الفرح، وقد امتلأ بالشكّ لا بالاقتناع، لأن محاولة إدراك حدث خارج عن الطبيعة لا تسبب إلا حالة متفاقمة من الهلع، كأفلام نهاية العالَم التي نراها والتي يكون هلع الناس فيها لرؤيتهم ما يتجاوز حدود المعقول هو الحبكة وأساس ذروة القصة، لاقتناع لا وعينا بأننا المسيطرون ما إن أغلقنا أبوابنا على أنفسنا.

سواء أكنت "علمانيًّا" أم كنت "دينيًّا"، وسواء أعتقدتَ أن الكلمات التي سمعها "النبي محمَّد" في تلك الليلة جاءت من داخل نفسه أم اعتقدت أنها جاءت من خارجها، فإن الحتميّ أنه أمر فعليّ بتجربة حقيقية، وحوّلت في الواقع رجلًا متواضعًا إلى قائد سياسي يحقِّق العدالة الاجتماعية والاقتصادية، والخوف كان ردّ فعل منطقيًّا وعقلانيًّا و"بشريًّا".

عندما تقرأ الوثائق القديمة تدرك أن ما يجعل الحدث حقيقيًّا هو الشكّ الذي انتاب "النبي محمَّدًا" نفسه، وهو دليل واضح على صِحَّة وقوعه في ذلك الوقت، لأن الشكّ هو أساس الإيمان، وكلما زاد الشكّ، زاد عمق الإيمان في تفكُّك واتِّضاح المعادلات الشكِّيَّة الموضوعة، فبعد إزالة الشكّ لن يبقى لنا إلا الإيمان، بل "اليقين".

عندما تَجُول في الحضارة المحمَّدية والعبقرية المصطفوية لـ"النبي محمَّد"، لن تراه إلا غاضبًا على ما يفعله المتطرفون باسمه في الشرق الأوسط، أو أي مكان في العالَم، وطبقًا لصفاته النبوية فسوف يشعر بالفزع من الاضطهاد الذي يتعرَّض له أغلبيات عُظمَى من الشعوب، سوف يشعر بالأسى لِمَا يحدث من انقسامات عِرقِيَّة وطائفية، سيصف الإرهاب بالإجرام والخروج عن الدين، "مَن قتل نفسًا بغير نفس أو فسادٍ في الأرض فكأنما قتل الناس جميعًا، ومَن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا"، ولن تعدو عيناه عن تحقيق سلام عالَمي بأبسط كلمات، وأحسن معاملة، وسيسود العالَم بأخلاقه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.