شعار قسم مدونات

"النخب المهزومة"

blogs - chess

إن تأزم المجتمعات العربية الفكري والأخلاقي والسياسي والاقتصادي باتت تمثله اليوم نُخب مهزومة مصابة بمرض هوس البقاء الذي ينفي الآخر ويسعى لمحقه وطمس جذوره كي لا ينمو وينافسه، والسبب في غالب الأحيان هو التضخم الشديد في "الأنا" الذي ينجم عن قصور فكري خطر أصاب من يسمون نفسهم نخبة فصار داءهم المزمن.
 

إن الانتشار السريع لهذا الوباء المخيف اذا ما معنا النظر فيه نجد أنه هو السبب وراء تضاعف المحاباة والبيروقراطية وتوزيع المناصب بناء على المجاملات الكاذبة، ووفقا لشعارات تتغنى بالثقافة والمثالية يحملها هؤلاء النخبة معتقدين أن الله لم يُعلم سواهم وليت علمهم كان نافعاً.

تسيطر النخب المهزومة نفسياً وثقافياً وحضارياً على فئات عريضة من المجتمع مستخدمة الإقناع والإغراء والتهديد، وفي كثير من الأحيان أسلوب التهريج لكسب أكبر عدد من الناس وضمهم إلى صفوفها.

يمارس هؤلاء ثقافة الخديعة والوهم فيعيدون إحياء الأحداث القديمة لصرف نظر المجتمع عن القضايا الأهم، لأنهم لا يملكون أدوات القيادة الحقيقية التي تمكنهم من توجيه الرأي العام وتنوير طريقه، فنجدهم يتمسكون بالأساطير التي رواها لهم أجدادهم ويسوقونها على أنها الماضي المثالي الخالي من الأخطاء والعثرات الذي يجب إحياؤه، فجعلوا الشعوب تعيش على أطلاله وتتمنى عودته دون أن تكلف نفسها عناء ذلك فتنسى بالتالي حاضرها ومستقبلها.
 

يعود تخلف المجتمعات العربية والفجوة العميقة بين الرصيد الثقافي الحضاري الذي تملكه وبين إمكانية الإضافة إليه من إنتاج فكري وثقافي معاصر بحسب كثير من المفكرين إلى الغرق في اجترار بطولات الماضي السحيق، الذي شهد انجازات عديدة عن طريق استخدام الشعوب آنذاك لرصيدها المعرفي والثقافي وحبها للعلم والتعلم، والذي تم تغييبه عمداً في العصر الحاضر، وبتواطؤ هؤلاء النخبة الذين ابتعدوا عن الاجتهاد والإبداع واحتلوا الساحة دون أن يمنحوا الفرصة لغيرهم من المثقفين.
 

تسيطر هذه النخب المهزومة نفسياً وثقافياً وحضارياً على فئات عريضة من المجتمع مستخدمة الإقناع والإغراء والتهديد، وفي كثير من الأحيان أسلوب التهريج لكسب أكبر عدد من الناس وضمهم إلى صفوفها، وفي هذا السياق أشار عالم الاجتماع ابن خلدون إلى عامة الناس بالقول إنهم فئة "يجمعها الطبل وتفرقها العصا" وهذا ما ينطبق على الواقع الذي أضحى ساحة للتطبيل فأصبح الناس يهيمون في واد غير ذي زرع نتيجة جهل نُخبهم مما أدى إلى تهالك البنية الاجتماعية.

إن النخب المهزومة اليوم وبأساليبها الركيكة ومستواها الحقيقي لا تستقطب الأذكياء والمفكرين والموهوبين، بل تتعمد انتهاج سياسية لإقصائهم وتهميشهم، فينجرف هؤلاء بعيداً عن القيادة والتأثير، ويبحثون عن الهجرة خارج بلدانهم وإن لم يجدوا إليها سبيلاً فإن أكثرهم يتحول بشكل تلقائي إلى التطرف والتحريض، ويستخدم قدراته في التأثير على الغاضبين والناقمين على معيشتهم وأنظمتهم الحاكمة؛ وذلك بشكل همجي انتقامي غير مؤسس لتتفاقم الأزمة وتتعطل ديناميكيات المجتمع .
 

على تلك الفئة التي تسمى نفسها نخبة أن تراجع حساباتها وتنبش داخل أفكارها وتصحح المغلوط منها، يجب عليها اللجوء إلى العلاج بأسرع طريقة، للقضاء على هوس البقاء الذي يتملكها، ويغلقَ الطريق أمام المجتهدين من الشباب، ويؤدي بهم إلى انتهاج سبل أخرى لا تغني ولا تسمن من جوع بل تزيد من تعقيدات الأزمة التي تعصف بحاضر الأمة ومستقبلها.
 

بات من واجب الأحزاب السياسية والجمعيات الفاعلة وأصحاب الرأي والقرار في البلدان العربية اليوم التخلص من الكوادر المهزومة ودراسة ظاهرة -النخب المهزومة- مع المختصين والمفكرين دراسة عميقة وجدية وذلك لتحقيق التوازن الاجتماعي والسياسي الذي يعتمد على هؤلاء النخب باعتبارهم المحرك الأساسي للشارع شئنا أم أبينا، فهم الذين يوجهونه التوجيه المطلوب لقيادته في نهاية المطاف نحو أفضل الاختيارات التي تمكن الموهوب والمتميز من القيادة وتضعه في المكان الذي يستحقه بعد أن سلب منه لعقود طويلة وتفتح له المجال للاجتهاد والإبداع.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.