شعار قسم مدونات

العدالة الجبائية.. بين الضريبة على الفقر والرفاه

blogs-تونس

العدالة الجبائية
إبان ثروات الربيع العربي وأمام المطالبة بالشغل والحرية والكرامة الوطنية درجت عدة مصطلحات ومفاهيم جديدة ومقاصد حديثة على ثقافة المجتمع العربي، تتحدث عن إعادة ترتيب بنية المجتمع من الناحية الاقتصادية وطرح من جديد فكرة التوزيع العادل للثروات والتمييز الإيجابي في التنمية والعدالة الجبائية إلى غير ذلك..
 

وبالتزامن مع إعداد وتحضير موازنات الدول وإقرارها في آخر كل سنة فقد اخترت الحديث في هذه المدونة عن العدالة الجبائية، معرجا على ما تشهده تونس في هذه الفترة من مخاض غير مسبوق في مناقشة مشروع قانون المالية لسنة 2017 في مجلس النواب، بحيث كان هذا المخاض ولا يزال نتاج تضارب مصلحي لم يعد ظاهرة صحية بقدر ما صار ظاهرة مرضية مزمنة تثبت تجذر ثقافة "لي الذراع" التي تحدثنا عنها سابقا في المقال السابق في مدونات الجزيرة.
 

تحوّلت العدالة الجبائية إلى مطلب شعبي في تونس نظرا إلى أهميتها في مكافحة الفساد وفي تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية

ولكن قبل التعرض للحالة التونسية لا بد من حصر مفهوم العدالة الجبائية الذي لم تجد العلوم المالية تعريفا وإجابة واضحة له، وإن دل هذا الغموض على شيء فهو يدل ان هذا المفهوم في الأصل يرجع إلى بنية العدالة كمفهوم فلسفي يتغير بتغير القيم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وتغير المكان والزمان ولكن من مفهوم سياساتي.

موجز يمكن القول إن العدالة الجبائية تفترض عدة آليات في النظم الضريبية مثل مساهمة إصلاحات دعم الطاقة في توليد الموارد اللازمة للإنفاق للفقراء أو أن تضطلع السياسة الضريبية للدولة في دور مهم في تحقيق العدالة وذلك بتحديد كيفية توزيع الأعباء الضريبية ومقدار ما يتم تعبئته من الايرادات الضريبية وغير ذلك. ورغم هذا فقد حاول بعض الفقهاء القانونيين تعريفها مثل "Jacque PereceBois" الذي يعرف العدالة الضريبية على أنها "الآلية التي تعمل على أن تكون منصفة "equitable" وذلك بتوزيعها للعبء الضريبي بحيث يتحمل كل واحد جزءه العادل".
 

الحالة التونسية
في الحقيقة إن الحكومات المتعاقبة بعد الثورة والحكومة الحالية ورثت واقعا اقتصاديا واجتماعيا صعبا اتسم بتفشي البطالة والفقر، وقد تفاقم هذا الوضع وازداد لتعطل الحركة الاقتصادية بسبب الاضرابات والتعطل الدوري والمتواصل لمراكز الإنتاج في الدولة مثل الفسفاط وشركات البترول إضافة إلى غياب ملحوظ لمبادرات خاصة وجدية في بعث المشاريع والاستثمار، وذلك ما نعمل على تحليله في المنتدى التونسي للاقتصاد والاستثمار كمحاولة لضبط القوالب التفسيرية لهذا التراجع الاقتصادي.
 

وقد تحوّلت العدالة الجبائية إلى مطلب شعبي في تونس نظرا إلى أهميتها في مكافحة الفساد وفي تحقيق التنمية والعدالة الاجتماعية والاقتصادية. ومن الضروري بالتالي أن تبني الدولة نظامها الجبائي على أسس سليمة قوامها سيادة القانون والمساواة في تطبيقه والعدالة في صنع السياسات العامة للدولة. وتحتاج تونس اليوم إلى إصلاح حقيقي للنظام الجبائي الذي كان مطيّة للإثراء غير المشروع على حساب الطبقات الوسطى والفقيرة، فالمنظومة الجبائية الحالية لا تحترم مبدأ المساواة أمام القانون ولا يمكن لها أن تساعد على توجيه المشاريع الاستثمارية نحو قطاعات حيوية قادرة على خلق أكبر عدد ممكن من مواطن الشغل.
 

ولكن يبدو أن مقومات بناء هذه العدالة ليست متوفرة في الجمهورية الثانية للدولة التونسية بحيث أنه تشهد البلاد التونسية اليوم فترة من الاضطرابات المتزامنة للمحامين والعاملين وأساتذة التعليم الأساسي والمتزامنة أيضا مع المؤتمر الدولي للاقتصاد والاستثمار..
 

عدم وجود استعداد يذكر من ذوي الحالات الميسورة ماليا في تحمل أعباء هذه العدالة التي يعتبرونها ضريبة على الرفاه.

ومن أشكال عدم توفر بيئة لولادة هذه الدالة فقد قامت صحيفة "INKYFADA" في تونس بدراسة معمقة لظاهرة التهرب الجبائي في تونس -صادرة بتاريخ 23 نوفمبر 2016- تركز على المهن الحرة وخاصة الأطباء والمحامين والمهندسين المعماريين فوجدت أرقام مفزعة تتحدث مثلا على أن 60 بالمائة من المحامين في تونس لا يطبقون قانون المالية ولا يصرحون بمداخيلهم، وأشارت من ناحية أخرى إلى مفارقة عجيبة تتمثل في أن الناظر في واقع أعداد الممتهنين للمهن الحرة تجدها في إطراد بنسبة 7 بالمائة فيما انخفضت المداخيل الجبائية بنفس النسبة 7 بالمائة في نفس السنتين 2014 و2015.
 

هذا وقد ارتفع وطيس معارضات قوية للتدابير الجديدة للحكومة الحالية لرفع السر البنكي كجزء من مكافحة التهرب الضريبي وفرض ضريبة على المسابح كجزء من مساهمة الطبقة الميسورة في تحمل تكاليف هذه الفترة الاقتصادية الصعبة التي تمر بها البلاد.
 

ولعلي سوف أمر إلى الحديث عن أرقام تعكس بعض من ملامح موازنة 2017 التي اختارت الاستمرار في فرض ضريبة على الفقر وتأجيل تقاسم أعباء الإنفاق العام إلى أجل غير مسمى:
– مساهمة الطبقة الوسطى في الضرائب المباشرة ارتفعت بنسبة 20 بالمائة بالمقارنة مع موازنة السنة الفارطة.
– النفقات الموجهة للدعم ارتفعت بكثير بالمقارنة بالدعم سنة 2016.
– تم تجميد الزيادات التي كانت مبرمجة للموظفين و عدم تطبيق الاتفاق مع الاتحاد لأنه وصف بالكارثي.
– الموظفين والعمال من الطبقة الفقيرة والمتوسطة يساهمون بنسبة 16 بالمائة من الايرادات على شكل ضريبة على الدخل.
– ضرائبهم على الاستهلاك والقيمة المضافة على السلع والمواد الاستهلاكية وصلت 80 بالمائة من ضرائب الدولة.
 

وبالتالي يتضح جليا تواصل النمط السياساتي المالي في مزيد إثقال كاهل المواطن العادي وعدم وجود استعداد يذكر من ذوي الحالات الميسورة ماليا في تحمل أعباء هذه العدالة التي يعتبرونها ضريبة على الرفاه، بحيث إن أول ما تم إسقاطه من مشروع قانون المالية هو الفصل الذي يفرض ضريبة على المسابح، وكذلك نقاش متواصل حول إسقاط بعض آليات العدالة الضريبية من بينها رفع السر البنكي الذي يوسع من ميدان تطبيق حق الحصول على معلومات لدى المؤسسات المالية وجملة الإجراءات الأخرى لمكافحة الغش والتهرب الضريبي..
 

لإحراز التقدم على صعيد العدالة الضريبية وتجاوز جدلية الضريبة على الفقر أو الضريبة على الرفاه فإنه بإمكانها إشراك الأطراف المعنية في تصميم الإصلاحات.

ولعل الناظر في كل ما سبق سوف يتهمني ولو قليلا في طرح دروس في الحقد الاجتماعي وتغذية لصراع طبقي، لكن الفكرة من هذا الطرح هو محاولة لتشخيص مشاكل السياسة المالية للدولة ومحاولة توجيه اصابع الاتهام إلى بعض اللوبيات الجشعة التي تنجح في إزالة أي ضرائب قد تنقص من ذمتها المالية من وراء ممثليها في المجلس النيابي والعائلات التجارية الكبرى المتحكمة في مجالات التجارية على اختلافها.
 

وحتى أختم، فإنه حتى تتجاوز الحكومة التونسية هذا الإشكال إلى جانب تصميمها لنظم ضريبية أكثر عدالة وكفاءة فإنه يتعين على صناع السياسات داخلها التعامل مع القوى الداخلية المعارضة للمصالح النابعة من منظومة المصالح الخاصة، والتعامل مع عدم وجود قاعدة عريضة للتأييد، والتعامل أيضا مع الإدارات الضريبية ذات المصالح الراسخة التي لديها رغبة محدودة في التغيير.
 

ولإحراز التقدم على صعيد العدالة الضريبية وتجاوز جدلية الضريبة على الفقر أو الضريبة على الرفاه فإنه بإمكانها إشراك الأطراف المعنية في تصميم الإصلاحات، كذا إثبات عزمها على استخدام الإيرادات بفعالية وتحديد وتيرة ملائمة لعملية الإصلاح بحيث تشير الأدلة إلى أن التواصل الفعال بشأن منافع الإصلاح يحظى بأهمية خاصة في كسب التأييد..
____________________________________

المراجع:
أندرو جويل وآخرون .العدالة الضريبية في الشرق الأوسط وشمال افريقيا.سبتمبر 2015
صحيفة الصباح نيوز.تونس.28/02/2012
منتديات ستار تايمز.أرشيف شؤون قانونية

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.